زينب القناوية أسطورة حيّرت الإنجليز وخلّدها الشعب

بي دي ان |

28 سبتمبر 2025 الساعة 10:34م

الكاتب

في صعيد مصر، وفي قنا بالتحديد، حيث تُحكى أروع الحكايات عن الكرامة والثأر، تَسْطُع سيرة امرأة واحدة بعينها. ليست ملكة أو أميرة، بل سيدة بسيطة من قنا، حوّلها الظلم والألم إلى أسطورة شعبية تتحدّث عنها الأجيال، إنها زينب القناوية، المرأة التي انتقمت لشرفها وزوجها، وتحدّت أعتى إمبراطورية في عصرها.

لم تكن محطة قطار قنا مجرد محطة عابرة، بل كانت شريانًا للوجود البريطاني في الصعيد. وفي يومٍ من الأيام، وقعت الواقعة التي غيّرت مصير زينب إلى الأبد. وفقًا للرواية الشعبية، تعرّضت زينب لتحرّش لفظي من جندي بريطاني أمام زوجها. وعندما هبّ الزوج للدفاع عن كرامتها، أرداه الجندي قتيلًا في لحظةٍ غادرة. لم تكن مجرد جريمة قتل، بل كانت إهانة مُركّبة ستحرق قلب زينب وتُشعل نار انتقامها.

لم تكتفِ زينب بالحزن أو الصراخ، لقد اتخذت قرارًا مصيريًا حوّلها من أرملة حزينة إلى صيادة لا ترحم. فقد قررت أن تتظاهر بأنها سهلة أمام الجنود الذين يأتي بهم القطار مرتين في الأسبوع. كانت تتربص عند محطة القطار، ومع وصول كل قطار إنجليزي، تختار ضحيتها من بين الجنود وتوحي بإشارات للجندي الذي وقعت عينها عليه بأنها مغرمة به. وتذكر الروايات أنها كانت تصطحب الفريسة إلى حيث المقبرة التي وُري فيها زوجها الثرى، فتقتله هناك ومن ثم تدفنه بجوار زوجها. هذا التفصيل المرعب والرمزي جعل من انتقامها رسالة متجددة: كل جندي غازٍ سيكون قربانًا لروح زوجها. لقد حوّلت المقبرة إلى نُصبٍ صامت يشهد على كبريائها.

لم يكن اختفاء الجنود مجرد حوادث منفصلة بالنسبة للقوات البريطانية، بل تحوّل إلى لغز محيّر أثار الذعر في صفوفهم. كيف يختفي جنود مسلحون في منطقة يُفترض أنها تحت سيطرتهم؟ لم تكن بريطانيا تتوقع أن يكون مصدر هذا التحدي امرأة واحدة تعمل بمفردها وتضرب بعمق في قلب مناطق سيطرتهم.

قرر القائد الإنجليزي أن يضع أحد الجنود الذين يتقنون اللهجة الصعيدية وبالزي الصعيدي ليراقب المحطة. بعد فترة، تمكّن المتخفي من كشف لغز الاختفاء والقبض على زينب. وبالطريقة الاستعمارية المعتادة، حكموا عليها بالإعدام شنقًا. ولكن، لتعظيم تأثير الترهيب، نُفّذ الحكم علنًا أمام أهالي قنا. كان الهدف إرسال رسالة قاسية: هذا هو مصير من يتحدى سلطاننا.

لكن المستعمر لم يفهم طبيعة الشعب الذي يحكمه. فبدلًا من أن تموت زينب، استُشهدت. والمشهد العلني الذي أرادوه درسًا في الخوف تحوّل إلى لحظة تخليد في الذاكرة الجمعية، حيث رأى الناس امرأة تموت من أجل كرامتها فخلّدوها أسطورة.

زينب القناوية ليست مجرد شخصية تاريخية، بل هي قصة انتُزعت من وجدان الناس؛ هي تعبير عن رفض الإهانة وعن المقاومة التي تأتي بأشكال لا تخطر على بال المستعمر. ورغم أن الرواية تختلف في تفاصيلها بين التاريخي والشعبي، إلا أن جوهرها ثابت: كرامة الإنسان لا تُقدّر بثمن. وفي زمنٍ حاول الكثيرون أن يمحوا فيه كرامة المصريين، بقيت زينب القناوية تذكيرًا خالدًا بأن كرامة الوطن والشرف أغلى من الحياة.

أما في الشعب الفلسطيني فهناك آلاف أمثال زينب، وإن لم تكن الأسباب تحرّشًا، فإن نساء فلسطين يعتبرن اغتصاب فلسطين سببًا لتقديم الغالي والنفيس في خدمة القضية. فالفلسطينيات لا يحتجن إلى سبب لمقاومة الاحتلال والدفاع عن شرف الأمة. عشرات الآلاف من الفلسطينيات، وخاصة الغزيات، من أمثال زينب القناوية.

يقول ماو تسي تونغ، زعيم الثورة الصينية، إن «من يستنسخ تجربة ثورية أحاطت بها ظروف معينة ليطبقها على شعب آخر وفي ظروف مختلفة، كمن يشتري حذاء فيجده صغيرًا، فعنده يقطع جزءًا من قدمه ليدخلها في الحذاء».

لقد قامت الفلسطينية آمنة منى، المولودة في قرية بير نبالا، باستدراج الفتى الإسرائيلي أوفير راحوم؛ وهناك استنساخ لتجربة زينب القناوية ربما غير مقصود (لم تكن العملية موفقة؛ فقد قُتل الفتى، واستُخدمت عملية القتل لتشويه المقاومة رغم أنها حالة فردية). آمنة لم تُعدم، بل أُطلق سراحها في صفقة شاليط وتُقيم في تركيا. ورغم أنها لم تصبح رواية، إلا أن فلسطين ستبقى والاحتلال إلى زوال، وعندها لن نكون بحاجة إلى زينب.

من أجل أن ننهي هذا الاحتلال نحن بحاجة إلى خطوات عملية وجريئة؛ أولها إصلاحات في نظامنا السياسي ليست كمطلب دولي بل لأنها حاجة فلسطينية ملحّة، وثانيها إنجاز الوحدة الوطنية على قاعدة مشروعنا الوطني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية (التي يجب أن نتمسك بها ممثلاً شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني مهما تعددت ملاحظاتنا عليها؛ فقد نحتاج أيضًا إلى إصلاحات في هياكل ومؤسسات المنظمة كحاجة فلسطينية وليس استجابةً لضغوط أو إملاءات خارجية). أما الخطوة الثالثة والأهم فتتمثل في توفير إمكانيات الحدّ الأدنى لتعزيز صمود أهلنا في وطنهم، وليس آخر هذه الخطوات استثمار هذا الاصطفاف الدولي غير المسبوق لمحاسبة إسرائيل على جرائمها ولإجبارها على إنهاء احتلالها لدولة فلسطين، مما يمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه في تقرير مصيره.