الهندسة الاستيطانية: استراتيجية الاحتلال لاغتيال حل الدولتين

بي دي ان |

22 أغسطس 2025 الساعة 08:37م

الكاتب
أثناء زيارتي الأخيرة لمسقط رأسي في الضفة الغربية، شعرت بثقل الحصار الجغرافي ووطأة الضغط الاستيطاني في كل خطوة أخطوها، وكأن الأرض نفسها مكبّلة. كل شارع وزاوية تحكي قصة احتلال مستمر وممنهج، لا يقتصر على الوجود العسكري وحده، بل يتجسد في إعادة هندسة الجغرافيا الفلسطينية بما يؤدي إلى تفكيك النسيج الوطني.
لقد بدا واضحاً أن الضفة الغربية بما فيها القدس قد قُسمت جغرافياً واستراتيجياً إلى محورين طوليين: الأول يمتد من شمال الضفة حتى جنوب قلقيلية، والثاني يشق الأغوار والقدس الشرقية. هذا التقسيم سيؤدي عملياً إلى تفريغ الضفة من ترابطها الجغرافي وتقسيمها إلى ثلاث مناطق رئيسية: الشمال: جنين، طولكرم، نابلس، والوسط: رام الله، البيرة، أريحا، والجنوب: الخليل، بيت لحم.
هذه الهندسة الجغرافية الاستيطانية لا تكتفي بعزل المناطق الفلسطينية، بل تهدف إلى فرض هيمنة ممنهجة، تقييد حرية الحركة، وتعزيز التحكم بالأرض بما يعيق أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة جغرافياً. وتتجلى هذه الاستراتيجية عبر شق الطرق الالتفافية والأنفاق التي تربط المستوطنات وتفصل القرى الفلسطينية، ونصب مئات الحواجز العسكرية والبوابات على تخوم المدن، وفرض مئات الأوامر العسكرية التي تمنع البناء والزراعة والاستثمار في المنطقة “C”.
إنها ليست خطوات عشوائية، بل نهج استيطاني مدروس يمتد جذره إلى خطة إيغال آلون التي وُضعت منذ عقود، مستهدفة السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس، عبر مزيج من القوة العسكرية، والتشريعات القسرية، والهندسة المكانية، في محاولة ممنهجة لإدامة الاحتلال وإجهاض أي مشروع سياسي يقوم على حل الدولتين.
وفي تطور خطير، أعلن وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل أيضاً منصباً في وزارة الدفاع، يوم 14 أغسطس الجاري، عن إقامة مستوطنات جديدة ضمن مشروع E1، قائلاً بصراحة مرعبة: "الدولة الفلسطينية تُمحى عن الطاولة ليس بالشعارات، بل بالأفعال. فكل مستوطنة، وكل حيّ، وكل وحدة سكنية هي مسمار آخر في نعش هذه الفكرة الخطيرة."
هذا المشروع، الذي اعتمدته حكومة الاحتلال عام 1999 على مساحة 12 ألف دونم، لم ينفَّذ منذ عام 2012 بفعل اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، لكنه اليوم يُعاد تفعيله بتنسيق كامل بين سموتريتش ورئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مع موافقة ضمنية من الإدارة الأمريكية، في محاولة لتكريس سياسة الأمر الاقع وتقويض أي إمكانيه للدولة الفلسطينية المستقبلية.
إن مشروع E1 لا يُعد مجرد تمدد للمستوطنات؛ بل أداة استراتيجية لتجزئة الأرض الفلسطينية وفرض هيمنة استيطانية على مناطق حيوية، مع قطع التواصل بين المدن وخلق شبكة معقدة من الكتل الاستيطانية والطرق الالتفافية تشمل: معاليه أدوميم شرقاً، جفعات زئيف شمالاً، وغوش عتصيون جنوباً، مع عزل متعمد للتجمعات الفلسطينية عن القدس، وفرض شبكة من الطرق والكتل الاستيطانية تجعل حلم الدولة الفلسطينية وكأنه سراب يبتعد أكثر فأكثر مع كل بؤرة استيطانية جديدة.
من منظور القانون الدولي، يشكل المشروع انتهاكاً صاريحاً لقواعد القانوني الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لا سيما قرار مجلس الأمن رقم 446 لعام 1979، والقرار 452 لعام 1979، والقرار 465 لعام 1980، وأخيراً القرار 2334 لعام 2016، الذي اعتبر الاستيطان "انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي" وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين. كما أكدت هيئات الأمم المتحدة، وعلى رأسها مجلس حقوق الإنسان، أن مصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وتهجير السكان، وشق الطرق الالتفافية، تشكل جريمة ممنهجة تستهدف قلب الطابع الديمغرافي للأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يشكل عقبة حقيقية أمام تحقيق سلام عادل، مما يستدعي من المجتمع الدولي التحرك بحزم لمنع تفاقم الأزمة والحفاظ على الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
في مواجهة هذا الخطر الداهم، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام لحظة وجودية تتطلب صياغة استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الاستيطان، ترتكز على أربعة مسارات أساسية:
1- مسار الوحدة الوطنية.. صمام الأمان الاستراتيجي: إن الانقسام الداخلي هو الثغرة الأخطر التي يتسلل منها الاحتلال لتنفيذ مشاريعه الاستيطانية. أما الوحدة الوطنية، فهي السلاح الأقوى الذي يعزز قدرتنا على الصمود والمواجهة داخليًا وخارجيًا. لذلك لا بد من تشكيل هيئة قيادية عليا تتولى إدارة معركة مواجهة الاستيطان وفق خطط استراتيجية مدروسة بعناية.
2- مسار المواجهة الشعبية الشاملة: صمود شعبنا هو الحائط المنيع في وجه الاحتلال. وهذا الصمود يتجسد من خلال مشاريع اقتصادية وتنموية، وزراعة الأرض المهددة بالمصادرة، وحماية المنازل من الهدم، وتنظيم حملات مقاومة سلمية تُبقي جذوة المواجهة متقدة، وتؤكد أن الفلسطيني راسخ في أرضه مهما اشتدت المؤامرات.
3- مسار المواجهة القانونية: ساحات المحاكم الدولية ليست أقل أهمية من ميادين المواجهة على الأرض. فلا بد من تصعيد المعركة القانونية أمام مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، لفضح جرائم الاحتلال بحق الأرض والإنسان، وتجريده من أي شرعية زائفة عبر أدوات القانون الدولي.
4- مسار الحراك الدبلوماسي: الدبلوماسية الفلسطينية مطالبة اليوم ببناء تحالفات استراتيجية أوسع مع القوى الكبرى والمنظمات الدولية، وتحريك الموقف العربي والإسلامي ليشكلا معًا جبهة ضغط حقيقية توقف الاستيطان، وتدافع عن الأرض، وتحمي حقوقنا الوطنية غير القابلة للتصرف.
إن مشروع E1 ليس مجرد مخطط استيطاني عابر، بل خطوة استراتيجية متقدمة لضم الضفة الغربية، بما فيها القدس، وتحويل حل الدولتين إلى رمز بلا مضمون. واليوم، يقف الفلسطينيون والعرب أمام اختبار وجودي لا يحتمل التأجيل: هل سنكتفي بمربع الأسف والإدانة والشجب، أم سنتجاوز هذه المربعات إلى استراتيجية مواجهة شاملة، تحمي الأرض والإنسان وتدافع عن المشروع الوطني بكل ثبات وعزيمة؟ أم سنظل صامتين، نرى أحلام الدولة الفلسطينية تتبخر أمام أعيننا، وتذوب تحت وطأة هندسة الاستيطان وفرض سياسة الأمر الواقع؟
[email protected]