بين بيان نيويورك وتصريحات السيسي: هل تغيّر الموقف المصري من الحرب في غزة؟
بي دي ان |
05 أغسطس 2025 الساعة 11:53م

في تصريح لافت، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن "الحرب في غزة لم تعد حربًا لتحقيق أهداف سياسية أو إطلاق أسرى، بل أصبحت حرب تجويع وإبادة"، وأن الوضع الإنساني يُستخدم كورقة سياسية للمساومة. هذا التصريح الذي صدر عن قمة سياسية رفيعة، لا يمكن اعتباره مجرد موقف إنساني، بل يحمل في طيّاته رسائل استراتيجية، وتحولاً جزئيًا في الخطاب المصري تجاه ما يجري في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
لكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل يتناقض هذا التصريح مع ما جاء في بيان نيويورك المشترك في تموز/يوليو 2025؟ وهل تخشى القاهرة من تداعيات استمرار الحرب والمجاعة في غزة، وخطط إعادة احتلالها أو إعادة تشكيلها أمنيًا وسياسيًا وفق الرؤية الإسرائيلية الأمريكية؟
أولًا: من بيان نيويورك إلى خطاب السيسي – تغير في اللهجة أم في الموقف؟
في 17 تموز/يوليو 2025، أصدرت خمس دول—هي مصر، السعودية، الإمارات، الأردن، وفرنسا—بيانًا مشتركًا من نيويورك، أدان بشكل واضح هجمات السابع من أكتوبر التي نفذتها حركة "حماس"، وأكد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مستندًا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة[^1]. كما دعا البيان إلى حماية المدنيين، وفتح المعابر الإنسانية، والعودة إلى مسار "حل الدولتين"، لكنه شدد في ذات الوقت على أن "المساعدات الإنسانية لا يجب أن تُستخدم كأداة تفاوض سياسي".
وقد فُهم هذا البيان بأنه انحياز دبلوماسي جزئي للموقف الإسرائيلي، ما أثار انتقادات واسعة في الأوساط العربية والدولية، واعتبره كثيرون خروجًا عن ثوابت الدعم العربي للقضية الفلسطينية، خصوصًا أنه أغفل الإشارة إلى العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والجرائم المرتكبة بحق المدنيين.
في المقابل، تصريح الرئيس السيسي الأخير يُعبّر عن تحول في الخطاب السياسي المصري، وهو انتقال من لغة "الإدانة المتوازنة" إلى لغة الإدانة الصريحة للجرائم الإسرائيلية في غزة، وتوصيفها بأنها "إبادة جماعية وتجويع ممنهج"، وهو ما يتقاطع مع ما ورد في تقارير الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان حول استخدام المجاعة كأداة حرب[^2].
ثانيًا: هل تخشى مصر من سيناريو احتلال غزة؟
هذا التحول في اللهجة يحمل في جوهره مخاوف أمنية واستراتيجية عميقة لدى الدولة المصرية. فمصر تُدرك أن استمرار الحرب في غزة، وتفاقم الوضع الإنساني، يهددان أمنها القومي مباشرة. ويمكن تلخيص هذه المخاوف في الآتي:
1. سيناريو انهيار غزة
إذا استمرت المجاعة والعدوان، فإن قطاع غزة مهدد بانهيار إنساني شامل، الأمر الذي قد يدفع مئات الآلاف من السكان نحو الحدود المصرية، ما يُشكّل تهديدًا مباشرًا لسيادة مصر وأمنها في سيناء، التي تخضع لتفاهمات أمنية ضمن اتفاقية كامب ديفيد[^3].
2. إعادة احتلال غزة وفق رؤية نتنياهو
بحسب ما تسرب من وثائق حكومية إسرائيلية، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدفع نحو خطة تقوم على: "تحييد حماس بالكامل، وفرض إدارة أمنية إسرائيلية مؤقتة، ثم البحث عن سلطة محلية بديلة"[^4]. ومصر ترى في هذا المسار تهديدًا مزدوجًا:
من جهة، عودة الاحتلال سيشعل المقاومة من جديد، ما يُبقي القطاع ملتهبًا على حدودها.
ومن جهة أخرى، أي إدارة بديلة تُفرض دون توافق وطني فلسطيني ستُنتج فراغًا سياسيًا وأمنيًا تستفيد منه التنظيمات المتطرفة.
3. استغلال غزة كورقة ابتزاز سياسي
ترى مصر أن بعض القوى تحاول تحميلها مسؤولية الأزمة الإنسانية في غزة، عبر الضغط لفتح معبر رفح دون تنسيق، أو إقامة مناطق عازلة داخل أراضيها، وهو ما تعتبره القاهرة خطًا أحمرًا يمس السيادة الوطنية.
ثالثًا: اتفاقية كامب ديفيد وحدود الدور المصري
رغم أن غزة لم تُذكر صراحة في اتفاقية كامب ديفيد، إلا أن لهذه الاتفاقية تبعات على دور مصر في القطاع:
تقييد انتشار القوات المصرية في سيناء يحد من قدرة القاهرة على التحرك بحرية في إدارة أمن الحدود[^5].
معبر رفح يخضع لاتفاقيات تنسيق مع السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي (اتفاق 2005)، ولكن مصر غير ملزمة قانونيًا بفتحه بشكل دائم، وإن كانت ملزمة أخلاقيًا وإنسانيًا بعدم استخدامه كأداة ضغط سياسي[^6].
وفق القانون الدولي الإنساني (اتفاقية جنيف الرابعة)، فإن الدول المجاورة لمناطق النزاع مُلزمة بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية وعدم عرقلة وصولها إلى السكان المدنيين[^7].
رابعًا: نحو مراجعة للدور المصري؟
تصريحات السيسي تُفهم أيضًا في سياق رغبة مصر في إعادة التموضع السياسي، فهي تدرك أن استمرار الحرب بالشكل الحالي قد يؤدي إلى:
تفكيك كامل للهوية السياسية لغزة.
تآكل الدعم الشعبي العربي للأنظمة المتحالفة مع الغرب.
تعاظم الدورين التركي والقطري على حساب مصر في ملف غزة.
وقد تكون هذه التصريحات تمهيدًا لتحرك سياسي جديد من القاهرة، سواء عبر استضافة مؤتمر للمصالحة، أو طرح مبادرة متقدمة تنقذ ما تبقى من البنية السياسية الفلسطينية.
خاتمة: القاهرة بين ضغوط الداخل والخارج
تصريح السيسي الأخير ليس مجرد موقف عابر، بل هو تحذير استراتيجي من انفجار غزة. وهو أيضًا رسالة مزدوجة:
للداخل المصري: بأن الدولة لا تصمت عن الجريمة في غزة.
وللخارج: بأن مصر لن تكون شريكًا في إبادة جماعية أو إعادة تشكيل غزة على النمط الإسرائيلي.
وفي كل الأحوال، المعادلة الأخلاقية والسياسية لم تعد تحتمل الصمت، ومصر مطالبة الآن بتوظيف موقعها الجغرافي والتاريخي والدبلوماسي للضغط من أجل وقف فوري للحرب، وتفكيك الحصار، وإعادة إعمار القطاع ضمن رؤية سياسية وطنية فلسطينية جامعة.
الهوامش:
[^1]: ميثاق الأمم المتحدة، المادة 51، بشأن الحق في الدفاع عن النفس.
[^2]: تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مارس 2025.
[^3]: اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية (كامب ديفيد)، 1979، الملحق الأمني المتعلق بتقسيم سيناء إلى مناطق عسكرية منزوعة السلاح.
[^4]: تسريبات "هآرتس" ومراكز دراسات إسرائيلية حول خطط ما بعد الحرب في غزة، أبريل – يوليو 2025.
[^5]: المصدر ذاته، الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد.
[^6]: اتفاق معبر رفح لعام 2005، الموقع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بوساطة أمريكية وأوروبية.
[^7]: اتفاقية جنيف الرابعة، 1949، المادة 23 و59 حول مرور الإغاثة الإنسانية.
• باحث في القانون الدولي، ورئيس تحرير صحيفة صوت العروبة
لكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل يتناقض هذا التصريح مع ما جاء في بيان نيويورك المشترك في تموز/يوليو 2025؟ وهل تخشى القاهرة من تداعيات استمرار الحرب والمجاعة في غزة، وخطط إعادة احتلالها أو إعادة تشكيلها أمنيًا وسياسيًا وفق الرؤية الإسرائيلية الأمريكية؟
أولًا: من بيان نيويورك إلى خطاب السيسي – تغير في اللهجة أم في الموقف؟
في 17 تموز/يوليو 2025، أصدرت خمس دول—هي مصر، السعودية، الإمارات، الأردن، وفرنسا—بيانًا مشتركًا من نيويورك، أدان بشكل واضح هجمات السابع من أكتوبر التي نفذتها حركة "حماس"، وأكد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مستندًا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة[^1]. كما دعا البيان إلى حماية المدنيين، وفتح المعابر الإنسانية، والعودة إلى مسار "حل الدولتين"، لكنه شدد في ذات الوقت على أن "المساعدات الإنسانية لا يجب أن تُستخدم كأداة تفاوض سياسي".
وقد فُهم هذا البيان بأنه انحياز دبلوماسي جزئي للموقف الإسرائيلي، ما أثار انتقادات واسعة في الأوساط العربية والدولية، واعتبره كثيرون خروجًا عن ثوابت الدعم العربي للقضية الفلسطينية، خصوصًا أنه أغفل الإشارة إلى العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والجرائم المرتكبة بحق المدنيين.
في المقابل، تصريح الرئيس السيسي الأخير يُعبّر عن تحول في الخطاب السياسي المصري، وهو انتقال من لغة "الإدانة المتوازنة" إلى لغة الإدانة الصريحة للجرائم الإسرائيلية في غزة، وتوصيفها بأنها "إبادة جماعية وتجويع ممنهج"، وهو ما يتقاطع مع ما ورد في تقارير الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان حول استخدام المجاعة كأداة حرب[^2].
ثانيًا: هل تخشى مصر من سيناريو احتلال غزة؟
هذا التحول في اللهجة يحمل في جوهره مخاوف أمنية واستراتيجية عميقة لدى الدولة المصرية. فمصر تُدرك أن استمرار الحرب في غزة، وتفاقم الوضع الإنساني، يهددان أمنها القومي مباشرة. ويمكن تلخيص هذه المخاوف في الآتي:
1. سيناريو انهيار غزة
إذا استمرت المجاعة والعدوان، فإن قطاع غزة مهدد بانهيار إنساني شامل، الأمر الذي قد يدفع مئات الآلاف من السكان نحو الحدود المصرية، ما يُشكّل تهديدًا مباشرًا لسيادة مصر وأمنها في سيناء، التي تخضع لتفاهمات أمنية ضمن اتفاقية كامب ديفيد[^3].
2. إعادة احتلال غزة وفق رؤية نتنياهو
بحسب ما تسرب من وثائق حكومية إسرائيلية، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدفع نحو خطة تقوم على: "تحييد حماس بالكامل، وفرض إدارة أمنية إسرائيلية مؤقتة، ثم البحث عن سلطة محلية بديلة"[^4]. ومصر ترى في هذا المسار تهديدًا مزدوجًا:
من جهة، عودة الاحتلال سيشعل المقاومة من جديد، ما يُبقي القطاع ملتهبًا على حدودها.
ومن جهة أخرى، أي إدارة بديلة تُفرض دون توافق وطني فلسطيني ستُنتج فراغًا سياسيًا وأمنيًا تستفيد منه التنظيمات المتطرفة.
3. استغلال غزة كورقة ابتزاز سياسي
ترى مصر أن بعض القوى تحاول تحميلها مسؤولية الأزمة الإنسانية في غزة، عبر الضغط لفتح معبر رفح دون تنسيق، أو إقامة مناطق عازلة داخل أراضيها، وهو ما تعتبره القاهرة خطًا أحمرًا يمس السيادة الوطنية.
ثالثًا: اتفاقية كامب ديفيد وحدود الدور المصري
رغم أن غزة لم تُذكر صراحة في اتفاقية كامب ديفيد، إلا أن لهذه الاتفاقية تبعات على دور مصر في القطاع:
تقييد انتشار القوات المصرية في سيناء يحد من قدرة القاهرة على التحرك بحرية في إدارة أمن الحدود[^5].
معبر رفح يخضع لاتفاقيات تنسيق مع السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي (اتفاق 2005)، ولكن مصر غير ملزمة قانونيًا بفتحه بشكل دائم، وإن كانت ملزمة أخلاقيًا وإنسانيًا بعدم استخدامه كأداة ضغط سياسي[^6].
وفق القانون الدولي الإنساني (اتفاقية جنيف الرابعة)، فإن الدول المجاورة لمناطق النزاع مُلزمة بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية وعدم عرقلة وصولها إلى السكان المدنيين[^7].
رابعًا: نحو مراجعة للدور المصري؟
تصريحات السيسي تُفهم أيضًا في سياق رغبة مصر في إعادة التموضع السياسي، فهي تدرك أن استمرار الحرب بالشكل الحالي قد يؤدي إلى:
تفكيك كامل للهوية السياسية لغزة.
تآكل الدعم الشعبي العربي للأنظمة المتحالفة مع الغرب.
تعاظم الدورين التركي والقطري على حساب مصر في ملف غزة.
وقد تكون هذه التصريحات تمهيدًا لتحرك سياسي جديد من القاهرة، سواء عبر استضافة مؤتمر للمصالحة، أو طرح مبادرة متقدمة تنقذ ما تبقى من البنية السياسية الفلسطينية.
خاتمة: القاهرة بين ضغوط الداخل والخارج
تصريح السيسي الأخير ليس مجرد موقف عابر، بل هو تحذير استراتيجي من انفجار غزة. وهو أيضًا رسالة مزدوجة:
للداخل المصري: بأن الدولة لا تصمت عن الجريمة في غزة.
وللخارج: بأن مصر لن تكون شريكًا في إبادة جماعية أو إعادة تشكيل غزة على النمط الإسرائيلي.
وفي كل الأحوال، المعادلة الأخلاقية والسياسية لم تعد تحتمل الصمت، ومصر مطالبة الآن بتوظيف موقعها الجغرافي والتاريخي والدبلوماسي للضغط من أجل وقف فوري للحرب، وتفكيك الحصار، وإعادة إعمار القطاع ضمن رؤية سياسية وطنية فلسطينية جامعة.
الهوامش:
[^1]: ميثاق الأمم المتحدة، المادة 51، بشأن الحق في الدفاع عن النفس.
[^2]: تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مارس 2025.
[^3]: اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية (كامب ديفيد)، 1979، الملحق الأمني المتعلق بتقسيم سيناء إلى مناطق عسكرية منزوعة السلاح.
[^4]: تسريبات "هآرتس" ومراكز دراسات إسرائيلية حول خطط ما بعد الحرب في غزة، أبريل – يوليو 2025.
[^5]: المصدر ذاته، الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد.
[^6]: اتفاق معبر رفح لعام 2005، الموقع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بوساطة أمريكية وأوروبية.
[^7]: اتفاقية جنيف الرابعة، 1949، المادة 23 و59 حول مرور الإغاثة الإنسانية.
• باحث في القانون الدولي، ورئيس تحرير صحيفة صوت العروبة