من يكتب قواعد الحرب القادمة: طهران أم تل أبيب؟

بي دي ان |

21 يونيو 2025 الساعة 09:08م

الكاتب
في صباح الثالث عشر من يونيو، انتهى زمن الحرب المؤجلة. إسرائيل بدأت أولى ضرباتها المباشرة والعميقة ضد الداخل الإيراني، لتفتح بذلك باب مواجهةٍ كانت معلّقة على خيوط التوازن الهش منذ سنوات. لم تعد المعركة تقتصر على التصريحات أو الضربات المحدودة بالوكالة، بل دخلت مرحلة الصدام المباشر، حيث تتقاطع الإرادات بالسلاح لا بالبيانات لكن هذه المواجهة رغم عنف بدايتها لا تنفجر في فراغ. بل هي نتاج فارق جوهري في الإمكانات، وتموضع عسكري غير متكافئ، وثغرات أمنية عميقة داخل إيران، يقابلها تفوق إسرائيلي في الضربات الاستباقية وسرعة الحسم. وفي المقابل، تواصل طهران الاعتماد على صبرها الاستراتيجي ونفسها الطويل، الذي بات اليوم أمام اختبار غير مسبوق.
هذا المقال يحاول تفكيك المشهد الجديد للصراع الإيراني-الإسرائيلي من خلال أربع زوايا مركزية: الفرق في التموضع العسكري، الفجوة في الأمن الداخلي، أنماط الاشتباك، والعقيدة الاستراتيجية التي تحدد قرارات الطرفين.
فرق الإمكانات والتموضع – ردع أم توازن هش؟
رغم أن إيران نجحت خلال العقود الماضية في بناء منظومة ردع إقليمية معقّدة عبر أذرعها المنتشرة في المنطقة كحزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحوثيين في اليمن، والجهاد الإسلامي في غزة  فإن طبيعة هذا الردع تظل دفاعية ومحدودة الأفق. فإيران لا تملك القدرة على فرض إرادتها العسكرية بشكل مباشر خارج حدودها، بل تركز استراتيجيتها على منع الهزيمة واحتواء الهجمات بدل السعي لتحقيق نصر حاسم. في المقابل، تتمتع إسرائيل بتفوق تكنولوجي واستخباراتي واضح، يجعلها قادرة على تنفيذ عمليات خاطفة ودقيقة، سواء عبر الطيران، أو الهجمات السيبرانية، أو عبر تحرك استخباراتي عابر للحدود. هذا الفارق البنيوي في طبيعة القوة العسكرية يصنع مشهدًا مختلاً في ميزان الاشتباك: إسرائيل تتحرك من موقع المبادرة والهجوم، بينما تبقى إيران في موقع رد الفعل، مقيدة بقيود سياسية وجغرافية وأمنية تمنعها من امتلاك زمام المبادرة. وبينما تُدار منظومة الردع الإيرانية من خلال شبكة حلفاء منتشرون على امتداد الجغرافيا الإقليمية، فإن التموضع الإسرائيلي يتيح لها التحرك بسرعة وبدقة وضمن تحالفات دولية متماسكة، ما يعمّق من اختلال التوازن القائم بين الطرفين.
فجوة الأمن الداخلي – قلب إيران مكشوف؟
أثبتت الضربات الإسرائيلية، ضمن ما بات يُعرف بـ"عملية الأسد الصاعد" التي بدأت فجر الثالث عشر من يونيو، هشاشة الأمن الداخلي الإيراني بصورة غير مسبوقة. ففي غضون أيام قليلة، تمكنت إسرائيل من تنفيذ سلسلة اغتيالات نوعية استهدفت قلب المؤسسة العسكرية والعلمية الإيرانية، شملت مقتل رئيس هيئة الأركان العامة محمد باقري، وقائد الحرس الثوري حسين سلامي، وقائد مقر العمليات المركزي غلام علي رشيد، إضافة إلى كبار قادة الدفاع الجوي والفضائي والاستخبارات، من بينهم دَفود شيخيان، غلامرضا مهربي، ومهدي ربّاني. إلى جانب هؤلاء، طالت الضربات ما لا يقل عن عشرة علماء نوويين بارزين، بينهم فريدون عباسي وسعيد برجي، في ما بدا وكأنه تفكيك دقيق وممنهج لهرم القيادة الاستراتيجية الإيرانية. وفي الأيام التالية، تواصلت الاغتيالات لتشمل أسماء بارزة مثل حسن مِحقق ومحمد كاظمي، المسؤولين في استخبارات الحرس الثوري، وصولًا إلى قيادات فيلق القدس كسعيد عزّادي وبهنام شهرياري. هذا المستوى من الاختراق الأمني داخل عمق إيران، وفي مواقع حساسة يفترض أنها شديدة الحماية، يؤكد أن تل أبيب لا تملك فقط قدرة عسكرية تفوقية، بل أيضًا تفوقًا استخباراتيًا وعملياتيًا يجعلها قادرة على اختراق المنظومة الإيرانية من الداخل دون أن تُقابل برد مباشر أو رادع فعّال. وعلى النقيض، لا تواجه إسرائيل تهديدًا مشابهًا داخل أراضيها، ما يمنحها هامشًا مريحًا للمناورة والمبادرة. إن هذا الواقع الأمني المقلق لا يُضعف فقط قدرة طهران على الردع، بل يضعف ثقة حلفائها الإقليميين بقدرتها على حماية نفسها أو التنسيق الفعال في لحظة التصعيد، ويجعل قراراتها أكثر حذرًا، محكومة بالتحسب لا بالمبادرة.
الضربات الاستباقية مقابل الردود المحدودة – من يتحكم بقواعد اللعبة؟
من أبرز مظاهر الاختلال في ميزان المواجهة بين إيران وإسرائيل هو الفرق الجوهري في طريقة إدارة الصراع: الهجوم الاستباقي مقابل الرد المحدود. فإسرائيل تعتمد منذ سنوات على استراتيجية الضربات الوقائية الدقيقة، لا تنتظر فيها حدوث تهديد فعلي لترد عليه، بل تتحرك وفق تقديرات استخباراتية وميدانية استباقية لضرب الأهداف التي ترى أنها ستشكّل خطرًا محتملًا مستقبليًا. وهذا النمط الهجومي النشط تمارسه إسرائيل في سوريا، لبنان، غزة، والعراق أحيانًا — وبلغ ذروته داخل العمق الإيراني نفسه خلال عملية "الأسد الصاعد" الأخيرة. إسرائيل تضرب أولًا، وتضرب بذكاء، وأحيانًا لا تنتظر حتى يكون هناك رد.
في المقابل، تتعامل إيران مع هذه الضربات بمنطق الرد المحسوب والمتناسب، فترد غالبًا عبر وسطاء (مثل الميليشيات الحليفة)، أو بضربات محدودة النطاق لا تتجاوز سقفًا معيّنًا من التصعيد. وحتى عندما تُستهدف شخصيات بارزة أو منشآت استراتيجية، فإن طهران تحرص على أن يكون ردها "متوازنًا" مع حجم الهجوم الإسرائيلي، دون أن تكسر قواعد الاشتباك القائمة، أو تذهب نحو تصعيد شامل يخرج عن السيطرة.
هذه المعادلة تُنتج واقعًا حادًّا: إسرائيل هي الطرف الذي يضع قواعد اللعبة ويعيد صياغتها متى شاء، فيما تظل إيران حبيسة تلك القواعد، تتحرك داخل مسارات مرسومة سلفًا، ما يفقدها القدرة على المبادرة الاستراتيجية. وبذلك، فإن ما يُعرف بـ"توازن الردع" يتحول عمليًا إلى تفوق إسرائيلي في المبادرة والتكتيك، مقابل ردع إيراني مشروط ورد فعلٍ لا يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة من الخارج.
الصبر الاستراتيجي كعقيدة إيرانية – قوة أم قيد؟
لطالما شكّل "الصبر الاستراتيجي" أحد الأعمدة العقائدية في سلوك إيران السياسي والعسكري، وهو ليس مجرد خيار تكتيكي عابر، بل جزء من رؤية استراتيجية طويلة المدى، تعكس طبيعة الجغرافيا الإيرانية الواسعة، وتركيبتها السكانية المتعددة، وتاريخها الطويل مع الحروب غير المتماثلة. تستند هذه العقيدة إلى الإيمان بأن النفس الطويل، وتعدد أدوات التأثير، والقدرة على الصمود تحت الضغط يمكن أن تُفشل خصومًا يعتمدون على الحسم الخاطف، كإسرائيل. ولهذا، تفضّل طهران خوض المعارك عبر الزمن لا اللحظة، وعبر الوكلاء لا الجيوش المباشرة، وعبر استنزاف بطيء لا اندفاع عسكري مباشر. في المقابل، تقوم العقيدة العسكرية الإسرائيلية على الحسم السريع والضربات المركّزة لتفادي المفاجآت والتقلبات، مدفوعة بمحدودية الجغرافيا وقلق دائم من طول أمد النزاع.
غير أن هذا الفارق في المنهج يطرح اليوم تساؤلات مصيرية: هل ما يزال الصبر الاستراتيجي أداة قوة بيد إيران، أم أنه تحوّل إلى قيدٍ يعطّل حركتها؟ فمع اشتداد الضغوط الاقتصادية، والانكشاف الأمني غير المسبوق داخل العمق الإيراني، وتحولات المزاج الإقليمي والدولي تجاه طهران، يبدو أن كلفة هذا الصبر أصبحت أعلى من أي وقت مضى. لم يعد الانتظار ميزة حين يصبح مكلفًا داخليًا، ومربكًا خارجيًا، خاصة إذا استمر الخصم كما تفعل إسرائيل الآن في فرض وتيرة المواجهة، وتوسيعها، دون رادع واضح. وهكذا، قد تجد طهران نفسها أمام لحظة مراجعة صعبة لعقيدتها التقليدية: إما تطوير مفهوم "الصبر" إلى شكل أكثر هجومية ومرونة، أو المخاطرة بفقدان القدرة على التأثير في قواعد اللعبة المتغيرة من حولها.
 
الخاتمة :
منذ 13 يونيو، دخل الصراع الإيراني الإسرائيلي مرحلة جديدة بعد الضربات الإسرائيلية المفاجئة داخل العمق الإيراني، مما جعل الحرب المؤجلة واقعًا قائماً على الأرض. في هذه المواجهة، لا يتعلق التنافس فقط بالقوة العسكرية أو التفوق التكنولوجي، بل بالقدرة على التحكم بزمام المبادرة وتحديد قواعد الاشتباك. إسرائيل تواصل استخدام تفوقها الاستخباراتي والتقني لتنفيذ ضربات استباقية مدروسة، بينما تحاول إيران أن توازن بين الردود المحدودة والصبر الاستراتيجي في ظل ضغوط داخلية وخارجية متزايدة. مع تصاعد وتيرة العمليات وتوسع دائرة المواجهة، يبقى الصراع محكوماً بحذر دقيق، لكن أي خطأ حسابي أو تصعيد غير محسوب قد يطيح بكل القواعد ويحوّل المواجهة إلى حرب مفتوحة شاملة ومدمرة. السؤال الذي يواجه المنطقة اليوم هو: هل ستتمكن إيران وإسرائيل من إبقاء الصراع ضمن حدود "المنطقة الرمادية"، أم أن المتغيرات المتسارعة ستدفع الطرفين نحو مواجهة لا تعرف هوادة؟