تقرير: هناء بعد تلك الليلة..؟!

بي دي ان |

04 يناير 2025 الساعة 03:42م

صورة تعبيرية
كان النزوح والفرار من جنون المجازر الإسرائيلية في ظل الإبادة الجماعية على قطاع غزة، مقدرًا لـ "هـناء . ج "بعد أشهر من الصمود ، ليفتح الفقد أبوابه على مصراعيه أمامها، لتتحول من أمٍ تطبع قبلتها على وجوه صغارها  عيسى والوسيم ويونس وسوار، ورفيقة تخطط مع شريكها "إ. ج"  تفاصيل الغد، لامرأة تقف وحيدة شامخة ثابتة كالجبال، لتكون لأبنائها أمًا وأبًا وصديقةً.

‎ثانيةٌ واحدة، هي الفارقة في حياتها، انقلبَ بعدها كُل شيء، وغدا واقعها مخيفاً مليئاً بأصوات صغارها الصارخة والخائفة من عنفوان الغارات الإسرائيلية، فهم فؤادها المرتجف من هول القيامة الماثلة أمامهم، فقدت صبرها وثباتها لتجبر عالنزوح وحيدة دون زوجها من مدينة بيت لاهيا شمال القطاع لجنوبه؛ فهذا النزوح مختلفاً تماماً عن سابقه، فهي اعتادت أن تركض  مرات ومرات من موت لآخر وهي مستندة على شريك حياتها.

تروي هناء قصتها بقهر يمزق قلبها،:"في ليلة السابع عشر من ديسمبر الماضي أصدر جنود الاحتلال أمراً بالإخلاء من مركز الايواء التي نزحت له رفقة زوجي، في ذلك الوقت كان ضرب النار وقنابل الصوت والغاز كثيفاً، وبسبب هذا لا أحد كان يتجرأ على الخروج من المركز، كل واحد بيننا كان يستند بزواية لعله ينجو بها من الرصاص العشوائي الموجه علينا من القوات الإسرائيلية، وقبل حلول الفجر بقليل باغتت القوات بألياتها ودباباتها المرعبة ساحة الايواء ، وقامت بفصل النساء عن الرجال، مصدرة أمراً بنزوح جميع النسوة دون أزواجهن، حينها داهمني شعور بالعجز وقلة الحيلة، كنت أعلم أن الحرب قاسية جدا لكن أكون بوسطها وحدي مع صغاري، دون زوجي مرعباً ومقلقاً بالطبع، تنقلت وسط الجميع حائرة، فالسير بطريقي دونه أشبه بمتاهة"

‎وتابعت:"كان الخوف والقلق يحاوطني وصغاري، كنت أجهل الوجوه والطريق، فكنت أركض دون توقف وفقاً لأوامر الشبح المسيّر فوق رؤوسنا" كواد كابتر"، كان هذا الشبح يقود نزوحاً ممتلئاً بالنساء اللات يسحبن أطفالهن: الواحد والإثنين والخمسة، على طرقات مليئة بالغبار والأتربة والنيران والقذائف ، كان النسوه يركض بلا وجهة، ومن ورائهن أطفالهن،ورجالهنّ لا يعرفن ما حلّ بهم، قطعن مسافة أربع ساعات مشياً، قطعن مصيدة نتساريم وصولاً لمخيم النصيرات ونحن نناجي الله أن ينظر إلينا بعين رحمته ولطفه وأن يحرسنا بعينه التي لا تنام، ليستقر بي المطاف وحدي بخيمة في مواصي خانيونس."

وأكملت السيدة"هناء" بصوت منكسر حكايتها من داخل الخيمة،" العيش هنا بمثابة موتًا مساويًا للحياة فكل لحظة في الماضي كانت مختلفة تماماً، عن سابقتها، كل حدثٍ قبل الإبادة كان مليئاً بالسكينة؛ والسلام 
‎وكل ذكرى كانت مكتظة بألوان الجمال، والرضا وأطياف السعادة، لكن الآن، بات كل شئ يمزق قلبي".

في كنف هذه الأيام تنحت  هناء الصخر لتجلب حياة كريمة لأطفال، وفي لوعة يمزق الحنين فيها قلبها تقول " أحب الشتاء كما كنت أحب الحياة كثيرًا، ولي في الشتاء طقوس جميلة لكن هذه الطقوس تحوِّلت هذا العام لكابوسٍ، بليلة من ليالي الشتاء ناجيت الله أن يوقف المطر، فلا مكان لنا نحتمي به، كنت حينها ارتجفُ بردًا باحثة  عن أيِّ غطاءٍ يدفئني وصغاري ، -ولو كان خفيفًا- وبلية أخرى سهرت الليل كله لتثبيت الخشبة الوسطى التي تُسند خيمتي المُهترئة، خوفًا من سقوطها على رؤوسنا، وانكشاف السقف النايلون مع كل رفيف ريح، لكن هذا السقف لم يكن يخذلني أيضاً بل كان يخدمني ،كانت تترسب منه قطرات ماء المطر فأقوم بجمعها في دلوٍ قديم، لاستخدامه ماء للشرب، ولكن هذا السقف أيضاً كان قد خذلني ، أذكر أنه بمرة قد هطل المطر بغزارةٍ كبيرة واختلط الماء بالوعاء الذي كنت قد جهَّزت فيه الخبز، وطار سقف خيمتي النايلون ليدخل ماء المطر لكيس الدقيق المتبقِّي لِيُنهي أملي الأخير بالحصول على قوت صغاري في ظل الغلاء الفاحش" .

يُحشرج بكاء هناء ويدها على آخر العنقود "سوار" وهي تقول: "أمس أمطرتْ وتبللت ثياب صغيري التي لا املك غيرها، وغرقنا وغرق فراش النوم، الذي كان يمثل أملًا وحيدًا للدفء، كيف لي أن أحميهم الآن وأنا لا أملك أي وسيلة لتدفئتهم، ولست انا وحدي فكلُّ من حولي يعيش المعاناة نفسها وربما أكثر مني"

‎وهُنا يطول حديث الفقد، الصبر والتصبّر، استحضار معاني الصبر والثبات، واللقاء الأبدي، كانت "هـناء" ثابتة انفعاليًا، لا تتلفّظ إلا بكلمات الرضا والاحتساب، كانت تتمنى أن تعود الحياة كما كانت قبل السابع من أكتوبر، ولكنها كانت تعلم في داخلها أن هذا لن يحدث، وأن قبل هذا التاريخ ليس كما بعده، وأن عليها أن تنظر للأمام، لحياة خالية من زوجها الذي لا تعلم مصيره ،

‎بحثت "هـناء" عن الأمل حتى وجدت طرفه، فهي تسعى للوصول عن معلومة حول مصير زوجها ، فعلمت من أسرى قد أفرج عنهم مؤخراً أن زوجها معتقلاً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي دون معرفة أي تفاصيل أخرى.

وتختم الأم حديثها: "أواسي نفسي بأنه في رعاية الله، وهذا ما يجعل قلبي أقرب ما يكون للسكينة، وأقرب ما يكون للأمل المحقق قريبا، وأخبر نفسي دائمًا أن هذا الفراق، مهما طال، سينتهي يومًا ما، اللقاء قادم، والانتظار مهما أثقلني لن يكون أبديًا، أعيش على هذا الأمل، فهو ما يُبقي قلبي نابضًا"