على فوّهة المذبحة

بي دي ان |

26 أكتوبر 2023 الساعة 11:34ص

الكاتب
 لا سلام عليكم.
 مباشرةً سأدخل إلى الموضوع.. 
ما هي الفكرة؟ 
لم يبقَ من الكلام السائد المكرور سوى المجاز الرماديّ أو الهواء: "حقوق الإنسان"و،"قوانين الحرب"،"الممرات الآمنة"،"اتفاقيات جنيف ولاهاي"،" سلامة المدنيين" والكلمات المُنمّقة عن العدالة والحق!
خذوا باطن الأرض وخذوا السماء.. واتركوا لنا جنازة لائقة!
***
هي لوحة كولاج أنجزها القَدر وأنزلها ، فكانت غزّة! لكنهم تاهوا في ألونها ، وضاعوا بين مكوّناتها ، ولن يجدوا في متاهة اللوحة ما يوصلهم إلى النوم .
***
آلاف الشهداء والجرحى ! والأجنّةُ عُراة! والقصف المجنون يتواصل بقصد وعشوائية، على الأفران والعيادات والنازحين!.. ورائحةُ الظهيرة قاسية.
 وما زلنا على فوّهة المذبحة 
العميقة    
البعيدة  
 القديمة   
الجديدة..
***
الغول الكامن وراء الحدود يخشى النار ويهرب منها.. تلك التي تحرس الأمل، وتنير بيوتنا المبعثرة.. 
وها .. نتحلّق حول جَمْرها!
***
الاحساس بالتفوّق،والبوارج،والصواريخ بكل أنواعها،وخدعة الطائرة، ونفاق الصليبيين، وعمى"ساراماغو" الغربي الشامل،وصمت الخونة، والعصابة المتخفّية، وطيْش الضابط،وأحرف الأسفار العنصرية،وخَرَس النياشين والخطباء،والعبث مع الضحية.. أسلاكٌ عارية، تُضيء يديك قبل أن تتركهما فَحْمَتَيْن.. هشّتين. 
***
أحاول أن أكون لطيفاً، مثل الناس في زمن السلام الجنائزيّ، على رغم اعتقادهم أن الرصاص هو الذي يفوز في الحرب.
لكنني سأستعيد اللحم من عرين الأسد..
ومع كل هذا الكلام المعدنيّ، ما زلتُ لطيفاً، أُحسن الظنّ بالعشيرة، وأحبّ الغناء، وأربّت على كتف الطفل الذي يكسر النوافذ  بحجرٍ صغير. 
***
أكاد أرى "بوسنة"أخرى، بمئات آلاف الضحايا!ونظام الغرب الهمجيّ يتفرّج ، بشماتة ودون اكتراث! بل ..ويغسل يديّ الجزّار من دم الأطفال، ويسانده بالفولاذ ، لأنه خندقه المشقوق في أحشائنا، وإظفاره المسلّح، الذي يحمى آبار النفط والهيمنة والاستلاب والمُغايرة وأنظمة التنكيل والعولمة.
ثمّ يقولون: من أين تأتي الكراهية؟
 ألستم مَن خلق المناخ المواتي لها، وتمّت بسكاكينكم الفاجرة؟
انتظروا انقلاب الملح ،وتداعيات الكبريت، الذي سيحرق أعشابكم السّامّة. 
***
وأعطتهم الاتفاقياتُ والمحاضرُ والتفاهماتُ:القبّةَ الذهبيةَ والاستباحةَالمدوّية والعربدةَ الناريّة..
  وأعطتنا : الصمتَ المريب والقتلى والحرائق والفجائع..
وثمّة مَن لم يأخذ غير الإبادة!   
إنه الدواء الفاسد الذي خلّصنا من الموت، لكنهم أعادوا حقْننا بذات الدواء، الذي خلّصنا من الحياة!
وتبقى الكلمة الوحيدة المُناسبة: التطهير العرقيّ.
هذا ما جنيناه ؛ الوَهْم الكاذب.
لكنّي سأظلّ مع القلائل، الذين يحفظون الأغنية،ويُعلّقون الخنجر الأرضي في رقابهم.
***
لقد رأيته، لقد رأيته، لقد ألقى فَرْش العجين إلى بيت النار، وظلّ الناس يتضوّرون قهراً، فجفّ الحبَق!
وكانوا أسراباً تملأ الأفق، من المذبحة إلى الخيمة إلى المجزرة..
ضعفاء، مساكين، ثكالى ، عطاشى، بين الركام العظيم بلا طريق.. لا حول لهم ولا قوة، عاجزون، مشرّدون.
 لكنهم هتفوا: عاش الوميض الذي سيرفعنا إلى السارية. 
***
 ما زلت أقبع في بيت التراجيديا، والسّراج في رأسي.
أصرخ بأنّ الكارثة ممتدّةٌ، لا محالة! لكنني بعيدٌ عنهم، ولا يطيب لهم، وهم يرطنون، أن أُنغّص عليهم هالات الكوميديا السياسية المهزومة، فيغلقون دوني نوافذهم ويزجرونني.. وها أنذا في منفاي الجديد؛ أُنادي وأبكي.. 
وأبقى وحدي.
***
أنتَ مَنْ يحدّد ما ستحصل عليه من حظٍّ جيّدٍ أو سيّئ.  وعليك أن تدفع الثمن إذا أردتَ أن تعيش بشروطك. وصِدْقك ليس تجمّلاً على العالَم، فهو الذي يجعل قلبك أكثر نوراً وأقلّ أعباءً. والتغيير الكبير لا يأتي في يومٍ واحد، حتى إن الغابة تحتاج إلى وقتٍ لتنمو.
ثمّ ماذا أيها الحكيم؟
.. قليلاً من الصبر، فالنصر خلف الباب.
***
سيتصادى هذا الرّعب المُرتب ، الذي تمّ تدبيره بإتقان!
***
لم تصلني بطاقةُ الدعوة للمشاركة في حفل زفاف العِنّين المشبوه ! لأنه يريد مُهرّجين وبهلوانات.. يتقافزون، ويتغنّون بفحولته ، ويدعون له بالخَلَف الصالح.. وهو يعلم جيداً أن ليلته المُقبلة صعبة.. ولن ينجو من الارتخاء المُحْرِج والبكاء العاجز.
***
لا مكان لرقمٍ مشؤوم! ثمة تلميذٌ خائن، ونبيٌّ مخذول.
ولا وجود لطائرٍ تُنكره! هناك عينان واسعتان قرب البحر في المخيّم، وعميان على البرّ لا يبصرون.
***
لم ينفجر ذلك الُمعلّم من جهل أو معرفة ، كان يعرف أنّ وعْيه التراجيدي سيبقيه حزيناً ، يتهيّأ للمجزرة التي ستقع ، كأن نوسترادموس ، أو عائفاً من الصحراء ، أو عرّافاً ، مُصاحباً لجنّيٍّ يُطْلعه على الغيب . 
أما صديقه الضاحك أبداً ، فإن وعَيْه الكوميدي يؤجّل بكاءه أياماً وشهوراً ، ليسترجعه دفعة واحدة ، فتفيض الحواكير بالزّهر الأسود ، والريح الشمطاء .
***
رائحة الطيّون قوية ، تزداد مع المطر ، ولا أدري أيّ المخلوقات تكرهها !
 تبقى مُمرعة رغم الفصول ، وهي قهوة التراب .
***
عندما انسرب الدم الهائل، وشقّ جدولَه ، ولامس الأمواج .. صرخ  البحر! 
***
غمغمات  الكُمثرى العسليّة تفيض في فمي .. ثم تصير علقماً لا استطيع ابتلاعه ، فالمشهد خشن فظّ جِلف فاشيّ صادم ؛ لقد وضع خمسمائة جثة في قنينة وأغلقها ، ورماها في الموقد! 
إن أصوات الفتيان والفتيات ، وسط شبوب اللهب المتغيظّ يمزّع الكبد ويفرم القلب .
ثم جاء ، والبلطة في يده ، يقهقه.. ويقهقه.. فانكسرت جرسيّة الكنيسة ومالت مئذنة المسجد ، وتبعثرت المدينة على الجنبات.
***
هل رأيتم؟ 
مع كل هذا الموت، يدير لنا العالَم ظَهره.. وينام!
ولهذا ؛علينا أن نُعيد النظر في كل المقولات.
***
المهم ! كان الشاهد يتبرّم كلّما استدعوه إلى المحكمة ، لأن لا قضية هناك ، ولا قاضي صلح ولا هيئة محلّفين ولا أي محامٍ ..إنما بيت الزنك والخشب المتهالك ، وبضع دجاجات يسحْن في أرضية ترابية عكرة ، تنقرها الدجاجات ولا يلتفتن إلى الشاهد !
***
يترجرج فنجان  القهوة  في المركبة العسكرية ، وتسقط منه قطرات على سروال الضابط، وسيقول لجنوده: ارجعوا لأبدّل قميصي !
***
ولم ينْتهِ الحكواتي حتى قال: انهزموا وولّوا مدْبرين..، فَحَمل الضابطُ سرجَه ععلى ظهره .. وقيل؛ إن الرمال قد ابتلعته ، أو أن العطش قد بطش به فرماه تحت لظى الناغرة ، أو أن الوحوش قد تناوشته ومصمصت عظامه ، وتلمّظَت بنخاعه السُكّري .
***
صحيح أني كنتُ على تلك الكومة المهدّمة في ذلك الحيّ المقصوف ، وكانت الأرواح الهائمة تئنّ من حولي كأنها الطيور المُدمّاة .. وتقف ، تباعاً ، على كتفي وتحدّثني كما أحدّثك ، وتقصّ عليّ حكايات مهولة وذكريات مفزعة .. لكن ذلك الأمر قد انتهى .. وقلتَ لي : إن ذلك كابوساً .. أو بالأحرى كوابيس ، لاحقتني طيلة الليالي الفائتة .. لكنها لم تعد ، وها أنذا أنام عميقاً ، كأني أسقط على وسائد الجنّة ، وأتمتّع بمشاهدها الخلاّبة الباذخة ..
***
للمرتعشين المرجفين، أقول: انتظروا، سيتسع الحريق، ويمتدّ الطوفان!