ترامب ذو المحاكمتين

بي دي ان |

14 يناير 2021 الساعة 08:38ص

دخل الرئيس المنصرف دونالد ترامب مزبلة التاريخ من أوسع أبوابه، فقد أصبح أول رئيس أمريكي يحاكَم برلمانيا مرتين أثناء رئاسته، المرة الأولى عندما صوت مجلس النواب سابقاً بعزله في قضية أوكرانيا، لكن مجلس الشيوخ صوت برفض هذا الإجراء، والمرة الثانية عندما صوت مجلس النواب الآن بعزله بتهمة التحريض على التمرد والعنف خلال اقتحام الكونجرس، الذي تحول الآن إلى ثكنة عسكرية، وبهذا ينتقل أمر العزل إلى مجلس الشيوخ، والذي بدورة سيعقد جلسة للتصويت النهائي بعد تنصيب بايدن، حيث يستهدف الديمقراطيين إدانة ترامب وحرمانه من الترشح للرئاسة مرة أخرى، أما بعض الجمهوريين المؤيدين للعزل، فيريدون ايجاد سبب قوي لطرده من الحزب حتى لا يتفتت الحزب ويواصل السقوط.

برأيي المتواضع، فإنه ليس مهماً على الإطلاق عدد مرات محاكمة ترامب برلمانياً، وإن كان سابقة تاريخية مهمة، لكن الأهم هو فظاعة التهمة الموجهة للرئيس وهي: "التحريض على التمرد"، وإذا رفض مجلس الشيوخ عقد جلسة طارئة، وهذا هو المتوقع،  فسيتم تأجيل الأمر إلى ما بعد تنصيب بايدن، حيث يراهن الجمهوريون على الطعن في سلامة الإجراءات، باعتبار أن أركان العزل دستورياً وهي المقاضاة، والإدانة ثم العزل، تنتفي مع ترك  الرئيس منصبه، في المقابل، سينافح الديمقراطيين عن قانونية الإجراء بأنه بدأ منذ كان ترامب رئيساً، وإذا نجح الجمهوريون في مسعاهم وألغيت المحاكمة، فإنه يمكن للديمقراطيين التوجه إلى المحكمة العليا، أو ملاحقة ترامب عبر المحاكم الفيدرالية أو محاكم الولايات.

في التاريخ الأمريكي رؤساء حكموا فترة واحدة، وخسروا الثانية، ورؤساء آخرون تعرضوا لإجراءات العزل من المنصب، ورئيس وحيد جمع كل هذه الأوصاف هو ترامب، ومع ذلك يبقى الملياردير الجمهوري في كل الأحوال رئيساً انتخبه واستبدله شعبه، ولا شأن لنا نحن غير الأمريكيين بذلك، لكن، الشأن الذي يشغلنا هو أنه قاد مرحلة "ترامبية" تميزت بالفظاظة السياسية، والرعونة الدبلوماسية، وكان نموذجا للسياسي الفظ الذي يصرح بالإساءة لأشخاص ولدول ولأجناس تستحق الاحترام، ولهذا، نتمنى أن تنتهي بخسارته هذه المرحلة، لكني لا أتوقع انتهاء الترامبية كحالة وممارسة على الأقل خلال العقد الحالي.

هذه بالنهاية أمريكا، التي لا يستطيع أحد أن يدخل البيت الأبيض على ظهر دبابة، على غرار ما يحدث في جمهوريات الموز، وحيث لا يستطيع القوي شطب منافسيه، وتحويل الاستحقاق الانتخابي إلى مجرد استفتاء لمبايعة القائد التاريخي الملهم، فطيلة تاريخ الانتخابات الأمريكية كان الفائز يعلن في شهر نوفمبر، فيهنؤوه منافسه، وإذا كان الفائز رئيساً تبدأ مرحلة التعاون بين الإدارتين تمهيدا لنقل السلطة، وبالرغم من بعض الخلافات التاريخية السابقة على نتيجة التصويت، وحالات ضعف التعاون بين الإدارات، إلا أن ما يحدث الآن غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، فقد كانت خطابات التنازل والإقرار بالهزيمة بين المتنافسين عرف سياسي مستقر، وكان أكثرها صعوبة عندما يخسر الرئيس فترته الثانية، فبعضهم كان يعد ذلك استفتاءً على فشل ولايته الأولى، وهناك أيضاً حالات لصعوبة تقبل الهزيمة من قبل المرشح  الأوفر حظاً مثل حالتي آل جور، وهيلاري كلينتون.

يخبرنا التاريخ أن الرئيس جيرالد فورد الذي خلف نيكسون بعد استقالته عام 1974، ترشح لانتخابات الرئاسة عام 1976، لكنه هزم أمام جيمي كارتر، فلم يستطع إلقاء خطاب التنازل، وأوكل ذلك لزوجته السيدة الأولى بيتي فورد في مشهد حزين.. بعدها بأربع سنوات وقف جيمي كارتر نفس الموقف الحزين بعد هزيمته أمام رونالد ريجان خلال انتخابات 1980، وألقى خطاب تنازل جاء فيه: "وعدتكم ألا أكذب عليكم ولذا فلن أقول لكم إن وقوفي في هذا الموقف ليس مؤلما"، ثم هنأ منافسه بالفوز، ووعد بالتعاون الكامل في نقل السلطة.

خلال انتخابات 1992، هزم جورج بوش الأب أمام بيل كلينتون، فألقى على الفور خطاب التنازل وقال فيه: "هنأت كلينتون الذي أدار حملة انتخابية قوية، وأريد أن تعرف البلاد أننا سنعمل عن قرب مع فريقه لضمان انتقال سلس للسلطة"، أما جورج بوش الأب فكان آخر رئيس، قبل ترامب، يخسر انتخابات الفترة الثانية، ومع ذلك فإن القاسم المشترك بين جميع المرشحين المنهزمين، هو الإقرار بالهزيمة وتهنئة الرئيس المنتخب، وإبداء الاستعداد للتعاون، وشيء من مشاعر الألم.

رغم أن أمريكا دولة مرنة قادرة على استيعاب هذه الأزمات، إلا أن  الآمال ضعيفة بإخماد الشعبوية وطوي صفحة الظاهرة الترامبية، ومن عجائب السياسة الأمريكية أن بعض النواب الجمهوريين كانوا يرغبون بالتصويت على عزل ترامب، لكنهم لم يفعلوها بسبب خوفهم على حياتهم، في الوقت الذي تحذر فيه وكالة الخدمة السرية في نشرة استخباراتية من احتجاجات عنيفة في واشنطن قبيل وبعد تنصيب بايدن، وقد أثبتت الوقائع أن الميليشيات اليمينية المتطرفة في أمريكا والتي ظلت مهمشة لعقود بفضل القوانين ونأي السياسيين عنها، مثل براود بويز، وبوجالو، وكلوكس كلان وغيرها، حظيت خلال عهدة ترامب بدعم وتعاطف، مما يضع الأمريكيين أمام سيناريو محتمل ومقلق، وهذا سبب رئيس لتشديد الإجراءات الأمنية، ولهذا تعهد جيف روزين القائم بأعمال وزير العدل، بعدم التسامح على الإطلاق مع مثيري الشغب أثناء حفل تنصيب جو بايدن.

تقول شرطة الكونجرس، إن أنصار ترامب يعتزمون تنظيم ثلاث مظاهرات مسلحة، واحدة منها قد تكون أكبر مظاهرة مسلحة في تاريخ البلاد، بالإضافة إلى تحذيرها من اقتحام المحاكم والمباني الإدارية، مع وجود مخطط لاغتيال بعض أعضاء مجلس النواب، ولا شك أن عنف مراهقي السياسة الأمريكيين قد تحول إلى عقيدة، إذ يصف أنصار ترامب وقوفهم خلفه بالحرب المقدسة، ولهذا ألغى تويتر، خلال عدة أيام فقط، أكثر من 70 ألف حساب يروج إلى أن ترامب يخوض حرب سرية ضد عبدة الشيطان المسيطرون على الإعلام والاقتصاد والمناصب الحكومية الرفيعة، وهكذا أصبحت أقوى دولة في العالم على فوهة بركان غاضب ومتوتر.

• خبير متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية