وجهًا لوجه.. غابة الأشباح

بي دي ان |

03 فبراير 2023 الساعة 12:37ص

الكاتب
- قال: عجلة قيادة تسرع بلا سائق.. طرازٌ منقرض تمامًا، جدير بالمتاحف وأرى يوم رحيلهم من أيام السعد. فلا نسمع عنهما خيرًا أو  شرٍّا، فى عوادم الدهر  وأركانه المظلمة ينفثون الفرقة والانقسام والابتذال السياسي والاستفزاز بعيد عنا، فقال له : حال كل دجال يتمحَّك باسم القضية دون جدارةٍ ذاتية! فكأنما خُلق ليكون مهرجًا محترفًا.. شخصيات عجيبة! وما اكثر من يُمثِّلون البطالة المستغنية عن العمل، و المعتمدة في معيشتها على جيوب الشعب..!! فقال له بحدَّة وهو يقطب، ودفَقات غضبه في تصاعُد: هل وقت المحاسبة قد مضى وانقضى؟!

- برغم من المشاعر الحزينة والنظرة القاتمة، يجود حيثما ذهب ببسمات هادئة وتحيَّات حارَّة في سعادة طبيعية وكلمات غير مصطنعة. مرورًا بالكتابة الواقعية، وإلى الأشكال التجريية الأخرى التي خاض فيها، فن المزج بين الكتابة والتسلية، أو بين التحريض السياسي وبين السخرية الكوميدية، على ما فيهما من عمق وفلسفة وعظمة، وهي حالة قلما نجدها في الأدب الجاد. فضلًا عن أنَّه يجعل من العقل المحرك الأوَّل لسلوك المستمع. و يركز اهتمامه في إزالة أسباب الألم .. شعبنا متألم جدٍّا، فيجب أن نزيل الألم قبل كل شيء؛ ولنا بعد ذلك نكتب..نختلف ايجابيا، نتكلم وأن نتفلسف، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب.

-  وحيث مجلسه المعتاد منذ سنوات بمقهى الشاطئ السياسي، البحر المساء، الجلسة الصغيرة المهندمة انعكست عليها أضواء فوانيس مراكب الصيد القريبة، بالأنوار المتباعدة كالنجوم الباهتة، فوق ماء متلاطم، في جوٍّ مائل للبرودة. والقمر متوارٍ وراء سحابة داكنة، وتراءى الخلاء في ظلام راكد يبعث هموما وأسئلة. عند ذاك تتفجر الألسنة في غزارة، ولكن تشح الأجوبة حتى الإرهاق.

-  أهلًا.. مساك الله بالسعادة.. رُب صُدفة خير من ميعاد. فقال : فرصة سعيدة حقٍّا؛ أخذ يستردُّ شيئًا من هدوئه. والآن من فضلك: اطلب لي فنجال قهوة؛ فإني في حالة إحباط. وأشعل السيجارة، وسرعان ما تعانق مع نفسه دون ما كلمة واحدة. وامتلأ الصمت بتعابير غامضة، بمزيد من الهدء الراضي أخذ النَّفَس الأخير من سيجارة، ممسك بأنمله القلم الأنيق يبعث ضوءًا هادئًا.

طاوي جوانحه على قلب مفعم بالقلق، وحلَّ صمت قصير، متى تجود يا تُرى بالكلام؟ هزَّ رأسه وهو ينتزع من شفتيه الجافتين خيط الكلمات فقال: لماذا يغطي صخبهم على صوت القضية؟! ولماذا يتواصل هذا المخطط الصهيوني؟! والمصائب تتزايد وتكتل بهؤلاء كالسخام فوق قضيتنا.. هل تترك السفينة للغرق؟  

- ضحكة مقتضبة، ثم قال: فلسطين فوق الجميع.. و سوء حظها فاق الجميع! و سُرعانَ ما يكشف الوقت والناس عن حقيقتهم، فلا يتمخَّض ما نحن فيه عن أكثر من  مخطط صهيوني، ولعبة قذرة. إنها المصالح العمياء. بعد أن كبُر نفوذهم، وتعلقت به مصالح الكثيرين، ليبرروا مصالحهم .. المصالح هي الخطيرة، فقال: أمر مؤسف حقٍّا.. ومرارة التجربة التي طحنت عظام الناس! لكنها مزَّقت أقنعة الخيبة الفارغة، فلا فائدة تُرجَى من هؤلاء. يا لها من مهزلة! كلاهما قابضًا على هراوته الملطخة بالدماء، ولكن أحدًا منهم لم يجرؤ على اتخاذ خطوة إيجابية خوفًا من بطش الحزب، ولا يستطيع الصمود في وجه بطش القوة وتحكّمات المصالح؟

فقال: ولكنَّهم يتهامسون بذلك سرٍّا خوفًا على أنفسهم فقال بحدة : فليأكل بعضهم بعضًا. ولكن بعيد عن قضيتنا؛ فقد انتظرت حتى ضقت بالصمت، كل شيء يجري إلى الوراء المتواصل في روتين مسقم. حتى أدركني اليأس سنوات تسرع، وتلتهم ستة عشر عامًا من الزمن يا له من عمر! وتتكرر الحكاية بنظام صهيوني على مر الأعوام، بدأت بنا ونحن في ريعان الشباب والفتوة، حتى أدركتنا الشيخوخة وتخايلت  بأعيننا النهاية؛ العالم قد اندفع بجنون نحو التغيرات الفادحة، نحن محلك سر؛ في ظل خطة تسيطر على حركاتهم وسكناتها كأنما تلعب بهما بخيط خفيٍّ كعرائس "الماريونت". قال بثقة: كل شيء مرسوم يا بني. سنجد في النهاية أن يدك اليمنى تضرب اليسرى. فقال بغيظ: إنَّنا لا نتردد عن بتر اليد أو الساق عند الضرورة! مرة آخرى ..فليأكل بعضهم بعضًا بعيد عن قضيتنا.

- رد في هالة من الثقة بالنفس والحنكة، قائلا دون تردد: نحن نفكِّر في كل شيء. لا يمكن أن نسلِّم للاحتلال والانقسام دون مقاومة، أنت تفهم ذلك؟ثم جلس هادئًا ثقيل الجفنين وومضت في السماء مئات النجوم فوق الهامات المرتفعة، بعد ان تقلَّص وجهه ثائر بكلام غليظ كأن حروفه  قُدَّت من أسلاك شائكة، وتتابعت كضربات المطرقة،من الكآبة والضجر فقال: بين المحرقة والأخرى بين الحصار والعناء بين المصالح والانقسام بين القتل و الاعتقال والتعذيب، انصهرت الأبدان في جسد واحد هائل متعدد الاحزاب، متوحد العناء والعذاب، نحن نحترق. بين ستار دموي من الحديد المنصهر، رقدة القضية فى هموم تحت الحزن والهموم والعذاب والانقسام الأغبر. في الظلام الصامت، والظلم والحصار المضاعف من القريب والبعيد.

- فقال : ولكن ما الحيلة؟ لا وقت للتردد والهراء! وهل ثمة أمل؟ لا تحاول عبثًا. في الظل واقع يؤكِّد عُمْق الأزمة التي نعيشها، وتعيشها دولة المنحرفين وكيان المجرمين، فالحكومة المتطرفة بقيادة المجرم المقزز بنيامين نتنياهو وبمشاركة أشّد الأحزاب عنصريّةً ودموية وتطرّفًا وفاشيّةً، بتت غابة الأشباح. و لا توجد أمامها أيّ طريقة غير الدماء الفلسطينية من أجل إشباع نزوات الانتقام الوحشي لدى اليمين الإسرائيليّ الفاشي، وسرقة الأرض ولاستيطان و تسليح المستوطنين، والتغوّل الصهيوني على القدس وعلى المقدسات الإسلامية والمسيحية، و ستُؤجج التوتّر وتفتح الباب على مصراعيه للانفجار الكبير.

- فقال: لتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل. و أن تكون دماء الاحتلال الثمن الوحيد؛ أو الرحيل التام، عند ذاك تمتم: لم تعد الدولة بنت الحرام تُخيف أحدًا.. لن نظلَّ ملعبًا للصهاينة ولموالسة الانقسام والخراب، أو معبرًا للنعوش، واعتقال  وقتل الأبرياء رجال ونساء وأطفال.. كلهم أبرياء، أو تحت رحمة تجارب وغارات أسلحة وحشية تصبُّ النيران صبٍّا. بهدف التسويق ومعسكرًا للصمت والابادة البربرية، وننتظر كل  حكومة فاشية و حملة إرهابية جديدة لقتل المزيد من الابرياء. ونحن فى خراب الانقسام. 

- قد استقرت في الأعين المتطلعة إلى طريق الحرية والوحدة والاستقلال نظرة خاملة، غير مستسلمة، متقزِّزة، متألمة، متصبِّرة. ليبقى متفرجًا. من؟! شعبك. لكنه في صمت ينذر بالخطر. شيئًا من الديكتاتورية الحزبية، والمخطط الصهيوني اللعين، الذي يجعل كل فرد هنا أسير مصيره، ووضعه في مكان لا حرية له في اختياره عن إرادة أو غير إرادة، ليبقى ملهوجًا في فوض شاملة، فقال: أتعس حادث في حياتنا مثلًا بعد نكبتنا الكبرى، و أبقاه أثرًا في نفوسنا؟ حين تزلزل المجتمع من جذوره وانهار البنيان المتداعي، وأخذت انظمة الحكم الثلاثي في التبلور، بناء على مخطط الانقسام والخراب الصهيوني, وإذا  بالحكم الثلاثي أشد بؤسا وخراب من العدوان الثلاثي، يعترض طريق  قضيتنا واستقلالنا كثور أعمى. ما رأيك يا أستاذ؟فقال بحنق ما يشبه اليأس: المجرمون!

فقال بفتور: كلمات.. كلمات، لا توحي بشيء، أين ذهب الحذاء.؟ و أجهدهما الكلام فيما بدا فلاذا بالصمت، على مضضٍ مشاركين الناس سخطَهم الصامت؛ فالمأساة تستمر كالجرح الذي لا يذبُل؛ فلسطين كأنها الرمز الحي للزمن الموغل دومًا في التضحيات والتناقُضات وسوء الحال؛ ما فائدة الكلام؟ . لا فائدة من الكذب، أنت تعرف وهو يعرف. ولكن فات الوقت للأسف، فلم يبقَ لنا إلا أن نذكر شيئًا.

فقال: إن الصحوة في أي ملف، هي صحوة ستشمل كل ملف، فليس أفضل لحزب  مستبد من ضعف الهمم وموت العزائم! كيف حدث هذا؟ وصاح بأعلى صوته: الاستقلال.. الوحدة الحرية، لا مجيب. وكرر النداء دون جدوى؛ ربَّاه ما العمل؟! أين الحذاء.