ملاحظات على هامش الانتخابات الاسرائيلة 2021

بي دي ان |

05 يناير 2021 الساعة 03:52ص

اجرى حزب ميرتس الذي يعد اكثر حزب  يساري صهيوني  في مروحة الاحزاب الاسرائيلية الصهيونية، في بدايةكانون الاول من 2020، استفتاءً داخليا بين صفوف مصوتيه. 
هدف الاستفتاء فحص مدى قبول فكرة تحول ميرتس من حزب يهودي فيه عادة مقعد لعربي واحد، الى حزبيهودي عربي. 
جاء ذلك بعد ان شارف الحزب على الانهيار وصارت فرص عبوره نسبة الحسم في دائرة المجازفة.
حظيت الفكرة بقبول 0,7% من مصوتي ما يسمى "يسار وسط" ممن يشكلون عادة قاعدة ميرتس الانتخابية،وسقطت سقوطًا مدويًا ومثيرًا للسخرية، اذ اظهرت عمق الفجوة بين صورة الحزب التي يحاول ترويجها كحزبديمقراطي يرفع راية المساواة والسلام، عاليًا، وبين حقيقة ان مصوتيه غير مستعدين فعليًا قبول فكرة المساواة.
الاستفتاء أوضح لكل  ان مصوتي ميرتس على قلتهم يريدونه حزبًا يهوديًا وصهيونيًا قبل كل شيء، وأن خطابالتسامح والسلام الذي يلوحون به  منطلق من مصلحة ذاتية قومية تتمحور حول القبيلة اليهودية، اعطى هذاالاستفتاء فرصة لفهم طبيعة المساواة والسلام التي يريدها الحزب من جهة، وشروط المشاركة السياسية التي علىالعربي ان يخضع لها ليكون جزءً من اللعبة الديمقراطية من جهة اخرى، أي: ان يكون فردا وليس جماعة، شرططبعا ان يمثل الجماعة، بمعنى ان يكون او تكون واحداً وحيدا يمثل جماعة  يراد منها ان تكون  مخزونا انتخابيا،هذا الواحد دوره وظيفي تحليل (من حلال) ميرتس كحزب متسامح،  يأكل ما تطعمه له ميرتس عن الديمقراطيةويغض الطرف عن صهيونيتها، التي تشكل فكرة الدولة اليهودية عامودها وثقلها ومرساتها.

لكن ميرتس التي يرفض 99.3% من قاعدة منتخبيها فكرة المساواة والشراكة اصلا، لن تعدم عربًا يقبلون شروطهاويصوتون لها،  وستجد بلا شك المثقف الدوري الذي يقبل ان يكون  "چوي شبات" Goy shabat لديمقراطيتهاالبائسة.
المسألة لا تتعلق بفرد او شخص، نموذج المثقف الذي يلعب دور چوي شبات، هو نموذج يعبر عن حالة سيكو-اجتماعية افرزتها التحولات التي مر بها الفلسطينيون في الداخل، وهو يمثل شريحة جديدة من الطبقة الوسطىالتي شقت نجاحها وبنت سيرتها الخاصة في منعطفات المجتمع الاسرائيلي وطرقه، واخذت منه ادوات عملهاوالاهم صورتها في مرآته. هذه الشريحة نتاج تقاطع عدة عوامل ساذكر منها اثنين اولا  التعليم في الاكاديمياالاسرائيلية، وهيكلة مسيرتها المهنية وفق  متطلبات السوق الاسرائيلية وشروطها وثانيا بتوفر مسارات معينة تتيحوتشجع النجاح الفردي للعربي وفق شروط تتحدد بطبيعتها وطابعها. 
المؤسسة الاكاديمية الاسرائيلية من جهة والوزارات من جهة أخرى تخصص ميزانيات لدعم العرب، واستيعابهم فيوظائف ومهن معينة، هيئة التعليم العالي لديها منح مخصصة لدعم الطلاب العرب، الجامعات لديها منح مخصصةللباحثات العربيات  ومنها فقط للمرأة البدوية واخرى للشركسية الخ، كذلك الامر في بعض المراكز البحثية، هناكايضا برامج لاستيعاب الاكاديميين العرب في الهيئات التدريسية في الجامعات (النسبة طبعا لا تتعدى 1.5%)،في بعض المسارات العربي الذي يثبت جدارته العلمية وتفانيه يمكن ان يكون مدير مستشفى، او  عميد في كليةفي جامعة  محترمة او نائب رئيس جامعة، وان ينتدب ليشارك بمشاريع ضخمة حتى في العالم (كلها حالاتحقيقية).  
لا يعني هذا ان المنح سيئة ولا ان من يأخذها يقع في الفخ اطلاقا لكن فقط اصف خلفية تشكل طبقة وسطى.
افرزت مساحات النجاح والتعليم هذه سيكولوجية خاصة يرى فيها الشخص الناجح بان الفرص مفتوحة امامهوانه اذا ما جد وثابر وجد.  لكن النجاح الشخصي في مسارات المؤسسة ليس مقطوعًا عن سياقه بل ابنه الشرعيوالمدلل . 
وفي حالة الفلسطيني يرتبط بحالة مزدوجة وسريالية ينجح العربي ويصعد في سلم بعض الوظائف لانه عربي،ولكن عليه ان يتصرف كعربي من نوع خاص. لنأخذ حالة قصوى ان اختيار عربي ليكون سفير اسرائيل فيالهوناولو يتم لانه عربي، لكن وجوده في منصبه هذا الذي يدين به لعروبته يشترط ان يحولها الى سمة ليست ذاصلة  من خلال تفريغها تماما من اي بعد قومي او سياسي.
لنأخذ مثالا اقل قسوة وتطرفا، لعربي تدرج في المناصب حتى اصبح رئيس مستشفى اسرائيلي مشهور، هذانجاح باهر على المستوى الشخصي، يحتاج صونه الى جهد ربما الى تحييد كامل للهوية القومية، الى درجة انيفرض هذا الرئيس على الاطباء العرب ان لا يتكلموا بالعربية بل فقط بالعبرية، الهوية ومشتقاتها تترك في البيت. في العمل انت كائن حيادي.  لنذكر هنا مثلا البروفسور الناجح وهو يوقد شعلة الاستقلال والطبيب الاستثنائيالاهم الذي اشعلها قبله، وصاحبة شركة الاعلان التي اشعلتها بعده، والامر ينسحب طبعا على مجالات اخرى منفن وغناء واعلام، وحتى على عاملين في بعض مؤسسات المجتمع المدني ممن يشكلون اليوم بطانة الطبقةالوسطى وقشرتها الثقافية، ممن تخمرت تجربتهم في المؤسسة الاسرائيلية وذوتوا شروط نجاحهم وفق محدداتها،هذه الطبقة اصبحت تلعب اليوم دورا في بلورة الخطاب العام المرتبط بالتقدم وفي وضع لبنات النموذج المثاليللنجاح.

في الخمسينيات والستينيات كان المثقف الفلسطيني في الداخل يلعب دورا طليعيا ثوريا، ينتج سردية تخاطب ابنالمخيمات في لبنان كما تخاطب ابن الجليل وغزة ونابلس، كانت فلسطين المقسمة وحدة في مخيال المثقف، كانمحمود درويش وراشد حسين وتوفيق زياد وصبري جريس وسميح القاسم وغيرهم يقودون بناء الهوية الفلسطينية،وينحتون رموزها ويضعون الايثوس الجمعي لها. لم يسأل هؤلاء من هو الفلسطيني ولا حتى استخدموا المفردةكانوا فقط يستنطقوه ويشكلوه.
الجامعات الاسرائيلية فتحت ابوابها للعرب  وزادت نسبتهم في السبعينيات، لكنهم لم يذوبوا بل وضعوا اسسالحركة الطلابية واقاموا من خلالها الاحزاب والحركات،  لكن على الهوامش بدأت تنمو ظواهر جديدة للنجاحالفردي وللانشغال بالشخصي والنفور من الخطاب القومي، هذه الهوامش توسعت بموازاة توسع هوامشاستيعاب العرب في المؤسسات الحكومية والشركات،  مقابلها كان من ينشط في الاحزاب والحركات كالحزبالشيوعي وابناء البلد يمنع من التوظيف، ويفصل من التعليم ويحاصر في لقمة عيشه، ومع طفرة التطورالاقتصادي النيوليبرلي، التي قفزت في بداية التسعينات وبداية الالفية الثانية ومع ما رافقها من انتفاضة ثانية،وتقلص مستمر في الامل وحلم التحرر بدأت الهوامش التي نتجت وتخمرت في الاكاديميا الاسرائيلية وتبنت خطالمهادنة تنمو وتكبر، ليس فقط عبر نجاحها الشخصي بل عبر تحولها لنموذج بديل عن النموذج القومي الذي يرفعشعار الحقوق القومية وعبر التماهي مع خطاب المؤسسة ان هذا النموذج متطرف وغوغائي ولا يخدم مصالح شعبهبل يلعب فقط لعبة كراسي سواء كانت هذه المرسي طبعا في الكنيست او في الحامعة او الشارع هذا. 

والان نحن امام حالة جديدة، ضاقت فيها مساحة العدالة والمساواة الجمعية واقر قانون القومية ليتوج الفوقيةاليهودية (او بالاحرى يحوصلها) وتوسع بالمقابل هامش الاندماج الفردي لمثقفي الطبقة الوسطى، والمشروطبتقليص الهوية القومية او اعادة نزع دسمها في صيغة تمثل مشروع سلاتم وتعايش مثالي بين العربي- المواطنالجيد والدولة او بالاحرى بين العربسرائيلي الجديد، المتعلم الناجح مهنيا، الذي يرى نجاحه دليلا على ان من جدوجد وان الافكار عن السياسة والمطالب القومية مجرد تهويش غوغائي. 

هذا العربسرائيلي، في افضل حالاته يطالب بتوسيع الهوامش  (او لا حسب مساره)، في الاكاديميا يرى نفسهبانه عربي عبقري، وفي السياسة برچماتمي محنك. 

ولانه خلطة استثنائية من النجاح الفردي والبرچماتية يمكن له ان يكون مرنا يستوعب كل التنقضات، ان يكونعربي فخور ووطني مميز ومحب لشعبه وعضو حزب صهيوني او متحالف مع الليكود او اي شيء فقط ماء محايد،لا تناقضات بين الادوار  طالما كان مرنًا بما فيه الكفاية ليكون چوي شبات بما يرضي الله ولنا لقاء مع تعيين وزير عربي مسلم برسم نتنياهو ... فإلى الملتقى

*الدكتورة هنيدة غانم مديرة المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"