أنا والفئران

بي دي ان |

22 ديسمبر 2020 الساعة 04:15م

قال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا"
بدأت قصتي مع الفئران منذ كنت في التاسعة من عمري, عندما طلبت والدتي من جارتنا زوجة الشهيد أن تخلصها من مجموعة من الفئران النافقة الموجودة في سقيفة المنزل؛ لأن والدتي تخشاها وتشمئز منها, سارعت جارتنا للاستجابة لطلب أمي فصعدت السقيفة وأحضرت الفئران السبعة الموجودة على قطعة من الكرتون وبدأت تخوف أمي بها, وأمي تجري وهي تصرخ طالبة منها أن ترميها في سلة المهملات, وجارتنا تضحك منها وتقول لها: إنها ميتة, ماذا ستفعل لك؟ ونظرت إليَّ وقالت: إنها ميتة, هل أنت خائفة كوالدتك؟ هززت رأسي بالنفي, فمدت يدها بالكرتونة وقالت: إذن خُذيها وألقي بها في الحاوية. أمسكت قطعة الكرتون وبدأت أتأملها, واحدة كبيرة والباقي صغير جداً, إنها فأرة وصغارها, كم كانت جميلة, إنها فئران رمادية اللون, ذات رأس صغير, ناعم, جميل ... 
عندما عدت إلى أرض الوطن رأيت فئران من نوع آخر, أطلقت عليها اسم الأرانب لكبر حجمها, علمت أنها تدعى (عِرَس = ابن عرس), كانت تثير اشمئزازي وقرفي كلما رأيتها, كانت تملأ المكان, حتى أنها صعدت على قدمي وأنا أسير في الشارع في عتمة الليل مع زوجي ووالدي فقفزت كالمجنونة وبدأت بالصراخ, ثم دخلت في نوبة هستيرية من البكاء خاصة أنني كنت أحاول الاتصال بوالدتي وإخوتي للاطمئنان عليهم فباءت كل المحاولات بالفشل, فما كان من جدتي رحمها الله إلا أن قالت لي لتُسكنَ غضبي: والله يا جدة لم نكن نعرفها, ولم نرها يوماً, لقد أطلقها اليهود علينا عندما احتلوا أرضنا, وها هي تعيش معنا, وها أنت ترين بأمِ عييك كيف يضع عمك لها السم, حتى أنه اليوم قضينا  على خمسٍ وثلاثين عِرْسَة في ليلة واحدة, فلا تبكي واهدأي ... إنها تهرب منك إذا رأتك, ماذا ستفعل لك وانت القوية الشجاعة ... قررت من تلك اللحظة أن لا أخافها, وأن أراقبها, وأبدأ باصطيادها؛ خاصة أنني كنت قد انتقلت إلى بيتي الذي كان فوق محل فيه خردوات وفوقه سقيفة يوضع فيها كل مستلزمات العمل, وكنت قد أنجبت طفْلَتيَّ ويجب أن أحميهما بكل الوسائل الممكنة. 
الأرانب الكبيرة كما كنت أُسميها كانت تجري خلف بعضها البعض, وتعيش في مكان واحد, وبينها من التواصل الشيء العجيب فسبحان من خلق, وبدأت رحلة نصب المصائد واصطيادها وإحراز النصر عليها يوماً تلو الآخر, واستمر الحال على ذلك سنوات طوال طوال جداً, إلى أن قامت الجرافة بإزالة البيت المجاور لبيتي وإعادة بنائه وتحويله إلى مركز تجاري, وتم تحويل المحل الذي أقطن فوقه إلى محل لبيع البسكويت والشوكلا بالجملة, فاختفت العِرَس ولم اعد آراها لا في بيتي ولا في شارعنا ولا حيَّنا ... ولكن ..
عندما ظننت أنني تغلبت عليها وانتهت ظهرت عِرَس من نوع آخر, هناك في الظلام, أطلت برأسها على حين غفلة من الجميع, فَنَمَت وكَبُرَت وأصبح لها قائد ضخم وقطيع كبير من الاتباع, يأمرهم فيسمعوا ويطيعوا دون تفكير أو تردد, اقتسموا الحي والشارع والبلد بل كل الوطن, واستأثر كل واحد منهم بقطعة من الأرض فأوغلوا فيها فساداً, أكلوا الأخضر واليابس, وحولوا الأرض الخضراء الجميلة الرائعة إلى أرض جدباء قاحلة, عِرَس لا تبحث إلا عن طعامها وطعام اتباعها, وفي سنوات قليلة حاول الصيادون الماهرون القضاء عليها فباءت كل محاولاتهم بالفشل, حيث هاجمهم القطيع فَقَطَّعَ أطرافهم وبترها فأصبحوا عاجزين, والقسم الآخر ترك البلاد مغادراً إلى غير رجعة, وأخرون دفعوا ثمناً غالياً عندما فكروا التخلص منها, فعاشوا في غُرف مظلمة تحت الأرض يعانون الألم والحرمان والعذاب, وآخرون يصرخون كلما اقتربت منهم الفئران ليبعدوها عنهم كما أفعل أنا وآخرون مثلي فنحن نعلم أنهم لا يستطيعون الاقتراب منا فنحن ما زلنا الأقوى.
خربت المدينة ولم يتبق شيء فيها, سوى فئران ضخمة تقود جيشاً جراراً من القطيع العبيد. أما نحن فننتظر رحمة رب السماء أن تنقذنا من تلك الكارثة التي حلت بنا يوماً عساه أن يكون قريباً.