بوتين يستحضر المدحلة السوفياتية

بي دي ان |

27 فبراير 2022 الساعة 11:40م

العديد من الإعلاميين والمراقبين السياسيين الغربيين، وجزء كبير منهم على صلة مع أجهزة امن بلادهم المعنية ببث الاخبار والاشاعات المغرضة والكاذبة حول الحرب الدائرة منذ 24 فبراير الماضي حتى الان بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، ونشر معلومات مغلوطة، وقلب للحقائق، وتشويه صورة الجيش الروسي بشكل خاص في ضوء طريقة وأسلوب عملياته العسكرية في الحرب الدائرة، مستخدمين بعض التفاصيل الصغيرة في الحرب للطعن في أهلية الجيش الأحمر، ليس هذا فحسب، حتى ان البعض منهم ذهب بعيدا في استنتاجاته، عندما ادعى ان بوتين تورط في حربه مع اوكرانيا، ولم يأخذ بعين الاعتبار تداعيات الحرب، وان اميركا نجحت في توريطه فيها.
وقبل الرد على تلك الادعاءات غير الدقيقة والتشكيكية، اود ان الفت نظر أصحاب تلك الابواق، بان الجيش الروسي يعتبر بالمقاييس العالمية ثاني اكبر جيش في العالم من حيث العدد والقوة والعتاد والأسلحة بانواعها المختلفة بدءا من الأسلحة التقليدية وصولا للأسلحة النووية والصاروخية والبيولوجية الجرثومية. وهناك بعض التقديرات تشير إلى انه الأول نوويا وكلاسيكيا عالميا. لا سيما وان الجيش وقيادته احدثت قفزة هائلة في منظومته العسكرية خلال العقدين الماضيين من رئاسة الثنائي بوتين وميد فيديف.
اذا الجيش الروسي والقيادة السياسية الروسية بزعامة فلاديمير بوتين لا يمكن لها الانخراط في الحرب مع هذا البلد او ذاك تحت نزعة ردود الفعل الارتجالية، وهكذا قرار يفرض عليها أولا اخذ كامل الاحتياطات السياسية والديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية المالية والاجتماعية واللوجستية والبيئية والعلاقة مع الشعب والجيش الاخر؛ ثانيا تقدير الموقف العملياتي على المستويين الإقليمي والدولي؛ ثالثا التشبيك المسبق مع الحلفاء على المستويات الأخرى، وفي ذات الوقت استقراء واستشراف قدرات القوى المعادية من دول الغرب الرأسمالي، وتوجهات تلك القوى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وحدود سقفها السياسي والاقتصادي والعسكري الأمني.
كما ان حدود هذه الحرب يتجاوز أوكرانيا بكل المعايير، ولها عميق الصلة بتغيير معادلات الصراع مع المنظومة العالمية القائمة منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، لا بل ابعد من ذلك، لانها تستهدف تغيير معادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتعمل على فك وإعادة تركيب النظام العالمي وفق معايير جديدة لا تقتصر ابعادها عند حدود العمليات العسكرية، وانما تطال كل المنظومة العالمية امنيا وعسكريا واقتصاديا وماليا بما في ذلك تغيير نظام بريتون لعام 1944، وشطب مكانة الدولار الأميركي كمعادل للذهب، وقلب الأمور على مختلف الصعد والمستويات رأسا على عقب.
ولهذا اعتمدت القيادة الروسية استحضار نظريتها العسكرية التاريخية، التي استخدمتها في الحرب العالمية الثانية، ولم تتخلى عنها، لانها اثبتت جدارتها في هزيمة الجيوش الهتلرية. لا سيما وان الجيش الأحمر السوفياتي هو وليس جيشا اخر غيره من هزم النازية الهتلرية، ودفعت الشعوب السوفياتية حوالي عشرين مليونا لوحدها من الضحايا البشرية لتحرير البشرية من التغول النازي والفاشي الألماني الإيطالي الاسباني والعسكرتاريا اليابانية. والكل يعلم ان الولايات المتحدة لم تنخرط فعليا في الحرب بالمعنى الدقيق للكلمة، وكل ما استخدمته، كان القائها القنابل النووية على هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، وادمت قلوب أبناء الشعب الياباني والعالم على حد سواء.
بوتين كان قادرا على استخدام احدث الأسلحة وأكثرها فتكا باوكرانيا. ولكنه لم يلجأ لهذا الخيار، لانه أولا يريد كسب ود الجيش والشعب الاوكراني، الذي يعتبره جزءا لا يتجزأ من الشعب الروسي، رغم كل التنميقات، التي استخدمها في خطابه يوم الخميس الماضي مع اعلان الحرب على أوكرانيا، ثانيا يريد حصر المعركة مع نظام زيلينسكي ومجموعته المتورطة من وجهة نظره في التواطؤ مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي، والتي تستهدف مكانة ودور روسيا التاريخي؛ ثالثا أراد أيضا ابعاد شبح أي خطر نووي او غير نووي يمكن ان يستهدف روسيا؛ رابعا أراد توجيه رسالة لدول البلطيق وأوروبا الشرقية خصوصا بالانتباه لسياساتها، وان لا تنسى نفسها في اندلاقها المريع في الحضن الأميركي؛ خامسا كما انه شاء ان ينبه دول أوروبا الغربية لاعادة نظر في سياساتها ومصالحها الاستراتيجية، والخروج من دوامة الخضوع المطلق للسياسة الأميركية، التي ادارت الظهر لهم، ولمصالحهم، وتعمل على وأد أي سياسة أوروبية وحدوية.
لهذا لجأ لاستخدام أسلوب المدحلة السوفياتية القديمة مع الاخذ بعين الاعتبار التطور الحاصل في تركيبة القوات والأسلحة الروسية وشروط المعارك، التي تعتمد بالأساس على التمهيد بالنيران، والتقدم البطيء بالقوات العسكرية المجوقلة، او حتى بتقدم المشاة على الأرض وفق تكتيك يقوم على مبدأ "تطويق وحصارها ومن ثم التقدم في المدن"، كما انه لجأ أولا لضرب معظم شبكات الرادارات واللاسلكية، وشل سلاح الجو عبر ضرب المطارات، وتعطيل مدراجاتها وابراجها، واية أسلحة غير تقليدية يمكن استخدامها ضد الجيش الروسي وجيوش الجمهوريات الجديدة (دونيتسك ولوغانسك)؛ ثانيا لم يستخدم اية أسلحة حديثة لا نووية او صاروخية غير عادية؛ ثالثا ركز الجيش في تقدمه وعملياته على التصدي للقوات الأوكرانية المقاومة لتقدم الجيش الروسي وفق المبدأ المذكور انفا؛ رابعا بات من الواضح من تجربة الأيام الأربعة الماضية انه ليس متعجلا نهاية الحرب، لتصل الرسائل للجميع مع التمدد العسكري الروسي التدريجي في السيطرة التامة على الأراضي الأوكرانية.  
بالنتيجة المنطقية والعقلانية في قراءة معطيات المشهد العسكري للحرب على الجبهة الأوكرانية ان روسيا تعمل بهدوء، واعتقد ان حدود الخسائر المعلن عنها حتى من قبل الرئيس الاوكراني ونظامه السياسي لا تشي بالتورط الروسي، بل هي رغم التضخيم النسبي فيها، الا انها في نطاق الحسابات العقلانية لهكذا حرب. ومن يعتقد ان حربا على بلد بحجم مساحة أوكرانيا ستمر بسهولة ودون جيوب للمقاومة هنا وهناك، يكون مخطئا.
لذا اعتقد ان الحرب تسير وفق الخطة العملياتية العسكرية الروسية، ولم تخرج عن المألوف، ولو حدث تطور آخر غير محسوب، كان يمكن ان ترافقة ردود عسكرية دراماتيكية، الامر الذي يفرض على الرئيس زيلينسكي وأركان قيادته ان يستخلصوا الدرس ويحموا شعبهم من اخطار مواصلة المعارك، ويبدأوا مفاوضات مع روسيا لبلوغ نتائج مرضية وإيجابية للشعبين الروسي والأوكراني والاقليم عموما.
[email protected]
[email protected]