العدو يخشى الثقافة

بي دي ان |

27 ديسمبر 2021 الساعة 11:56م

واحدة من اهم جبهات الحروب والصراع بين الأعداء هي الثقافة. لانها تمثل الحامل الأساس لمنظومة الوعي القومي الاجتماعي، وتشكل الحصانة المعرفية، وتتعامد مع التاريخ، تاريخ وموروث مطلق شعب من الشعوب. لا سيما وانها جُبلت وبنيت على مدار الحقب التاريخية، ونهلت وأصلت ذاتها مع صيرورة وسيرورة الزمن في ماض وحاضر هذا الشعب او تلك الامة. وبالتالي فإن هدم او تشويه وتحريف هوية شعب من الشعوب يحتاج إلى معاول وأدوات ثقيلة ومؤهلة ومركزة ودائمة لاعادة صياغة ثقافة ووعي الشعب المستهدف.

ولا يمكن للحروب العسكرية تحقيق هكذا هدف، رغم ان الجيوش قد تستطيع من احتلال بلد ووطن من اوطان الأمم. الا ان احتلالها لوحدة لا يمكن الدولة الغازية من تحقيق مآربها وغاياتها الاستعمارية، بل العكس صحيح، لان الاتكاء على البعد العسكري لوحده يعطي نتائج عكسية، ويعمل على تعزيز تعلق وتمسك الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار بهويتها وشخصيتها وتاريخها. الامر الذي يفرض على المستعمرين استخدام كامل أسلحتهم التدميرية وعلى رأسها سلاح المعرفة والثقافة بالتكامل مع الأسلحة الأمنية والاقتصادية.

ولهذا يستحضرني هنا مقولة وزير الدعاية السياسية النازي، جوزيف غوبلز للتدليل على أولوية واهمية ومركزية الثقافة في المواجهة، التي يقول فيها "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي." لان الثقافة هي الحصن الحصين لهزيمة العدو. ولهذا نلاحظ ان العدو الصهيوني الاحلالي والاجلائي منذ اللحظة الاولى لهجمته الاستعمارية لجأ للثقافة والاعلام وعملية غسل الدماغ من جهة أولى لتضليل المهاجرين اليهود من مختلف بقاع الأرض لصهينتهم، واقناعهم ب"عدالة" هجرتهم ل"ارض الميعاد"، الأرض "غير المسكونة"، والتي صاغها بالشعار التاريخي الاستراتيجي لترويج بضاعته الفاسدة والاستعمارية "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض"، هنا رسم معادلة مفبركة وكاذبة، وتتنافى مع وقائع التاريخ القديم والمعاصر، وتتوافق مع جملة التشوهات وعمليات التزوير للعهد القديم (التوراة) التي ادخلها غلاة المدارس المتناقضة مع أعمدة وركائز الوصايا العشر، ومن جهة أخرى لتعميم مقولاته الثقافية الإعلامية في أوساط الرأي العام العالمي، خاصة وان التمازج بين العهدين القديم والجديد، وما احدثته الصراعات والتناقضات التناحرية بين اقطاب الطوائف والمذاهب المسيحية دفع المجددون البروتستانت (الانجليكان) من الاقتراب الشديد مع اليهودية الصهيونية المشوهة. فضلا عن ان أصحاب المشروع الكولونيالي الاستعماري الصهيوني، هم اقطاب رأس المال المالي الغربي المسيحي، الذي ساهم عبر امبراطوريته الإعلامية ساهمت في تكريس الدعاية الثقافية الإعلامية الصهيونية في وعي الشعوب الانكلو سكسونية ومن يدور في فلكلها. ومن جهة ثالثة عمل بجهد حثيث ومتواصل على اجتثاث وطمس ثقافة وهوية الشعب العربي الفلسطيني، الشعب الذي انكر وجوده، وجاء لينفيه كليا من الديمغرافيا، من الأرض عبر الترانسفير والنكبات المتعاقبة لفرض حضوره وروايته المزورة بدعم واسناد من ذات الغرب الرأسمالي.

ومازال العدو الصهيوني ليوم الدين هذا، وحتى الغد وبعد الغد وإلى ان ينتهي الصراع سيبقى يصارع بكل ما لديه من تغول استيطاني استعماري وعسكري وامني وثقافي تربوي واعلامي وديني وحقوقي قانوني لفرض الوقائع الداعمة والمؤيدة لمشروعه الاحلالي والاجلائي لتدمير وتهشيم ونسف الهوية الوطنية الفلسطينية العربية، واغتصاب ذلك الموروث الفلسطيني، والادعاء بانه "موروثه" بالتلازم مع تعمق وصعود المشروع الصهيوني وصولا للدولة الإسرائيلية الكاملة. ومن المتابعة التاريخية لكيفية فرض مشروعه الاستعماري لاحظنا ادعائه انه صاحب المطبخ الفلسطيني ليس في الفلافل والحمص وغيرها من المأكولات، وانما في كل التفاصيل المتعلقة بالهوية والثقافة والموروث الحضاري الفلسطيني بالملابس الفلسطينية العربية بكل مشتقاتها الثوب والتطريز والغمباز والديماية، وحتى بالدبكة والموسيقى ... الخ

وهذا لا يعود لكونه لا يملك أي موروث ثقافي هوياتي تاريخي واحد، وانما لتعميق مشروعه، ولاضفاء شرعية للهوية الجديدة، التي يتقمصها ويغتصبها، وليقدم نفسه للعالم باعتباره صاحب هذه الأرض. رغم ان منظمة اليونيسكو والاسسكو وغيرها من المنظمات الأممية ذات الصلة تؤكد يوما تلو الاخر على الهوية الثقافية والحضارية للاماكن الدينية والدنيوية التاريخية، وللمأكل والملبس في فلسطين العربية. لكن قادة إسرائيل الاستعمارية لا ينفكون عن متابعة مشروعهم الكولونيالي.

لكل ما تقدم يخشى العدو الصهيوني الثقافة الوطنية الفلسطينية، ويتبنى مقولة غوبلز النازي، ولهذا قام باغتيال المفكر والمثقف المبدع غسان كنفاني وماجد أبو شرار وغيرهم من رواد الثقافة والمعرفة. لانه لا يقبل القسمة على الثقافة الوطنية، ويسعى لاغتصابها، وانتزاعها من روح وقلب الشعب الفلسطيني ورواد ثقافته وصناع شخصيته وهويته. لكنه فشل، وسيفشل إلى يوم هزيمته وكنسه عن ارض فلسطين. لذا كانت وستبقى جبهة الثقافة الجبهة الأهم والاقدر في الدفاع عن التاريخ والموروث الحضاري الوطني. ولن يتمكن العدو الصهيوني من التعايش مع روح الثقافة الوطنية، لانها لا تشبهه بشيء، ولن تتعايش معه، ولان الشعب وحراس ثقافته الوطنية سيكونون له بالمرصاد ولكل من يروج بضاعته الفاسدة، وارض فلسطين العربية ستبقي للفلسطينيين العرب ومن يرغب العيش معهم بسلام، والقبول بهويتهم وموروثهم التاريخي سيرحب بهم ويدمجهم في بوتقته الاجتماعية.