نبيل عمرو والحلقة الاخيرة من كتاب "أطول أيام الزعيم"

بي دي ان |

07 نوفمبر 2021 الساعة 04:17م

بدأ ضياء الفجر يتسلل من فراغات ‏الستائر المعدنية. كان ضياءً فضيا ‏يؤذن باكتمال دائرة أطول يوم في حياة ‏الزعيم‎.‎
اقترحنا عليه ان يحاول النوم مرة ‏أخرى. تذكر انه لم يوقع الرسالة التي ‏سينقلها الفريق اللبناني الى الرئيس ‏حافظ الأسد.‏
كانت مكاتبه الإدارية منتشرة في عدة ‏اماكن من بيروت الغربية، طلب مني ‏استدعاء فتحي او من ينوب عنه في ‏السهر قرب القائد العام. كان فتحي قد ‏غادر تاركا المهمة لماهر‎.‎
امر القائد العام، بدعوة الثلاثة الكبار ‏الى اجتماع، أبو جهاد نائب القائد العام ‏وأبو اياد الرجل الثاني ورئيس جهاز ‏الامن الموحد وسعد صايل أبو الوليد ‏المفاوض في امر ترتيبات الخروج‎.‎‏ ‏توافدوا بسرعة. كان صلاح خلف ‏الملقب بالرجل الثاني أول الواصلين. ‏لم يكن عرفات يحب هذا اللقب كما لم ‏يكن ليسمح لأحد باستخدامه في وصف ‏الرجل. كان حين يسأل عن سبب ‏تحفظه على اللقب الدارج لزميله في ‏القيادة التاريخية، اما ان يشيح بوجهه ‏عن السائل، وهذه طريقته في الاعراب ‏عن عدم رضاه عن السؤال، او يجيب ‏قائلا‎:‎
‏- معندناش لا في فتح ولا في المنظمة ‏مرتبة تنظيمية اسمها الرجل الثاني. ‏وأحيانا كان يسترسل بالقول: ‏
‏- اذا كان لابد من رجل ثاني فهو أبو ‏جهاد‎.‎
غير ان علاقة عرفات بصلاح خلف ‏رغم التحفظ على اللقب كانت ومنذ ‏كانا طالبين في القاهرة تقوم على ‏أساس متين من التحالف السياسي ‏البراغماتي، ذلك وفق معادلة تنطوي ‏على مفارقة “حذر دائم واعتماد دائم‎”‎‏.‏
كان أبو اياد قد لعب دورا مميزا اثناء ‏معركة بيروت الكبرى. كان يقوم ‏بجولات على المواقع الساخنة تبدو في ‏كثير منها انتحارية‎.‎‏ وفي حينه شاع ‏تفسير لا اجزم بصدقيته الا انه يستحق ‏النقاش، انها عقدة “أيلول 1970‏‎”‎‏. كان ‏أبو اياد من أوائل الذين تمكن الجيش ‏الأردني من اعتقالهم في معارك أيلول ‏‏70، ولم يفوت الملك حسين هذه ‏الفرصة لإجراء مفاوضات مع الرجل ‏الثاني، والوصول الى اتفاق معه. وقد ‏حدث ذلك بالفعل. الملك وأبو اياد ‏توصلا الى صياغة وثيقة تتوقف ‏بمقتضاها المعارك وينسحب الفدائيون ‏من مواقع معينة‎.‎‏ ‏
استقبل الاتفاق الذي اذاعه أبو اياد ‏بصوته من الإذاعة الأردنية بردود ‏فعل متفاوتة، البعض اعتبر ان في ‏الامر حيلة وتزويراً للصوت يندرج ‏في إطار الحرب النفسية التي تصب ‏أخيرا في حتمية خروج المقاومة ‏الفلسطينية بكل تشكيلاتها من ‏الأراضي الأردنية. غير ان هذا ‏التفسير لم يلقَ رواجا لا عند القيادة ولا ‏القاعدة، فقد كان صوته معروفا ‏للجميع، ولا مجال لتقليده لدرجة ‏التطابق. اما المزايدون، وكانت الساحة ‏الأردنية تعج بهم، فقد اعتبروا ان ‏اتفاق أبو اياد مع الملك شكل طعنة في ‏ظهر احلامهم في الاطاحة بنظام الحكم ‏في الأردن، وتحويل الضفة الشرقية ‏الى هانوي جديدة، تنطلق منها عملية ‏تحرير فلسطين. واما الذين كانوا يرون ‏بصورة واقعية تطورات المعارك التي ‏استخدم فيها الجيش الاردني كله، ومعه ‏فرق من قوات الامن تم اعدادها لهذه ‏الغاية فكانوا يرون ان الأمور لم تكن ‏تجري في مصلحة قوات المقاومة. ‏ورغم التحفظات التي أعلنت على ‏اقوال أبو اياد الا ان ما سمعه الناس ‏واختلفوا في تقويمه صار هو الأساس ‏الذي بنيت عليه النتائج النهائية لمعارك ‏أيلول. فقد خرجت قوات الثورة ‏الفلسطينية بكاملها من الاراضي ‏الأردنية بتدرج دام سنة، ورغم ان ما ‏فعله أبو اياد كان منطقيا وواقعيا الا ان ‏الرجل تأثر كثيرا بالحملة التي شنت ‏ضده من قبل المزايدين، وتجلى ذلك ‏في خطاب وداع أخير اطلقه من مخيم ‏الوحدات الذي كان المعقل الأساسي ‏لقوات الثورة الفلسطينية في عمان. ‏كان خطابا ناريا نسب أيضا لتأثير تلك ‏الواقعة‎.‎
في معركة بيروت الكبرى، كانت ‏الاذاعة الفلسطينية بمثابة الباروميتر ‏الدقيق لمجريات المعركة والمصدر ‏الوحيد لأخبارها. توقفت هذه الإذاعة ‏فجأة عن البث. قلق الناس على اذاعتهم ‏وكان الظن السائد آنذاك انها قصفت ‏ودمرت، أو أن الكادر تركها وهرب. ‏كان ذلك في واحد من أخطر أيام ‏الحرب والذي دخل التاريخ تحت ‏مسمى يوم المائتين وعشرين ألف ‏قذيفة.‏
كان أبو اياد اول المجازفين بالوصول ‏الى مقر الإذاعة، فوجئ بوجود جميع ‏الطاقم داخل المقر وحوله، إذا.. لا ‏تدمير ولا هروب. ابلغه الكادر ان ‏خللا فنيا أصاب الجهاز الموصل بين ‏الاستوديو ومحطة الارسال، وان ‏المهندسين يقومون بإصلاحه. وخلال ‏ساعة عادت الإذاعة الى البث. جلس ‏أبو اياد وراء الميكروفون وارتجل ‏خطابا حماسيا أعاد الثقة للمواطنين ‏والمقاتلين، أكد فيه بأن المعركة ما ‏تزال تسير في مجراها الصحيح. ولم ‏يغادر المقر الخطر الا بعد ان استمع ‏لتعليق حماسي اداه مذيع الثورة الأول، ‏الحاج خالد مسمار، صاحب الصوت ‏السحري الذي كان الناس ينتظرونه كل ‏صباح‎ ‎أيام إذاعة الاشرفية في عمان، ‏وينتظرونه من صوت العاصفة في ‏القاهرة وينتظرونه كذلك صبح مساء ‏أيام بيروت.‏
‏ بعد دقائق من وصول ابو اياد، وصل ‏من كان عرفات يفضله كرجل ثانٍ، أبو ‏جهاد. وكان هو الاخر ممن ادوا دورا ‏بطوليا مميزا في المعركة الكبرى. كان ‏عرفات حين يلتقيه يوجه له لوما ‏متكررا بسبب قلة او عدم مشاركته في ‏اجتماعات القيادة. ذات مرة سأله…‏
‏-‏‎ ‎‏ اين كنت بربك يا أبو جهاد؟
‎ – ‎كنت في المتحف‎.‎
ولمن لا يعرف بيروت، ولا يعرف ‏تضاريسها السياسية والقتالية التي ‏فرضتها الحرب، لا يعرف ان المتحف ‏هو أخطر نقطة على خط التماس ‏الفاصل بين شطري المدينة الغربي ‏والشرقي. معظم المعارك الطاحنة ‏جرت في ذلك المكان الضيق. كان ‏انهيار المتحف من جهة الشرق يعني ‏اقتحام اهم المناطق المسيحية. اما ‏العكس فيعني اقتحام مناطق التحالف ‏الثوري. كان الواقفون قبالة بعضهم ‏البعض يدركون أهمية المكان الذي ‏يدافعون عنه. الاسرائيليون وصلوا الى ‏هناك. ويوم المائتين وعشرين ألف ‏قذيفة جرت محاولة مستميتة من ‏الإسرائيليين وشركائهم في الحرب ‏لاقتحام المنطقة تحت كثافة النار التي ‏غطت كل أجزاء بيروت الغربية‎.‎
قبل وقف إطلاق النار الذي تم التوصل ‏اليه ولا أحد يعرف كم هو رقمه، أعلن ‏راديو إسرائيل بلاغا يمكن اعتباره ‏بمثابة محاولة لحفظ ماء الوجه، يقول ‏ان دبابة “الميركافا” التي هي درة ‏سلاح الدبابات الإسرائيلي تقدمت ‏مسافة عشرة أمتار داخل بيروت ‏الغربية. اثار البلاغ سخرية المواطنين ‏والمقاتلين وتشكلت حوله طرائف ‏وتشنيعات. كان بلاغا عزز الثقة في ‏نفوس المقاتلين خصوصا أولئك الذين ‏صدوا الهجمات وردوا دبابات العدو ‏على اعقابها. كان أبو جهاد هناك. لم ‏يغادر المكان الا بعد ان توقفت ‏المعارك وتراجعت الدبابات وتنفس ‏المقاتلون الصعداء بفعل فوزهم في ‏تلك الجولة‎.‎
آخر الواصلين كان الرجل الأهم في ‏تلك الساعة. فهو حامل المادة التي ‏ستعرض على الاجتماع وتتخذ ‏القرارات بشأنها، العميد سعد صايل ‏أبو الوليد، العسكري الصامت الذي ‏تميز عن باقي قادة ورموز الظاهرة ‏الفلسطينية اللبنانية المشتركة بابتعاده ‏عن وسائل الاعلام، واحجامه عن ‏الظهور فيها. أبو الوليد بهر ‏الأمريكيين بإتقانه لمهمته الأصعب ‏والأدق حتى من المهمات القتالية ‏الخطرة‎.‎
لم يكن يفاوض على طريقة نقل ‏المواقف والرد على الأسئلة، لأن ‏خصمه يرسل الطائرات للقصف كلما ‏رفض عرضا او تأخر في الرد على ‏اقتراح‎.‎‏ كان هادئ الاعصاب، يدرك ‏وهذا هو سر صموده النفسي وثباته ‏على المواقف الأساسية، انه المسؤول ‏المباشر عن أرواح عشرات الاف ‏المقاتلين ومئات الاف المواطنين. لم ‏يكن همه فقط انقاذ الأرواح وإنقاذ ما ‏يمكن إنقاذه من البنايات والمنشآت ‏والمرافق، بل كان اشد حرصا على ‏انقاذ الكرامة وصورة الثورة ورجالها. ‏كان هاجسه الدائم ان يتجنب الانهيار ‏داخل تجمع القوات الذي لا تزيد ‏مساحته عن اربعة كيلو مترات مربعة. ‏ولأنه كان جنرالا محترفا يقرأ الواقع ‏جيدا ويستنتج تطوراته المحتملة، فقد ‏كان يعرف الى أي مدى تراجعت ‏الأوضاع على جبهته. فلقد تناقصت ‏المساحة التي كانت تتحرك عليها ‏التشكيلات العسكرية المقاومة، ‏وقطعت خطوط الامدادات جميعا ‏وتناقصت الذخائر الى أدنى حد. وحين ‏كانت الطائرات الإسرائيلية تقوم ‏باستعراضاتها في الأجواء، لم يكن ‏يسمع صوت المضادات على عكس ‏الأيام الأولى للحرب حيث اسقطت ‏المضادات البدائية من خلال غزارة ‏نيرانها طائرات قاذفة ومقاتلة.‏
‏ كان أبو الوليد يفاوض وهذه الصورة ‏لا تفارق مخيلته الا انها لم تحمله على ‏التساهل والتنازل في الأساسيات التي ‏كلف بها.‏
الخلاصة كان أبو الوليد يعمل وفق ‏معادلة قوامها تراجع متسارع في ‏القدرات على الأرض وتفوق مطلق ‏على جبهة الخصم، الا انه نجح في ‏احراز اقصى ما يمكن احرازه في امر ‏انهاء المعارك والمغادرة‎.‎
كانت ساعة صباحية، تحلق فيها الكبار ‏الأربعة حول طاولة الطعام التي ‏استخدمت في زمن الحرب كطاولة ‏اجتماعات اتخذت حولها قرارات ‏هامة. احضر أبو الوليد معه ملفات ‏عديدة … الجداول الزمنية التي تحدد ‏وقت الصعود الى البواخر ومغادرتها ‏ميناء بيروت وكذلك موانئ المقصد ‏واوقات المغادرة، وتعهدات أمريكية ‏ودولية وحتى إسرائيلية بعدم المساس ‏بالمغادرين او القيام باي عمل يعيق ‏تموضعهم على ظهور السفن ويحول ‏دون انطلاقها الامن‎.‎
بعد ان أكمل العميد عرض ترتيبات ‏الخروج بالتفصيل انتقل الى ما تم ‏الاتفاق عليه بشأن ترتيبات مغادرة أبو ‏عمار. قال مطمئنا:‏
لقد حصلنا على كل ما طلبنا في هذا ‏الشأن. انهم متلهفون لمغادرتك بعد ان ‏تعذر قتلك…. ستصل مصحوبا بجميع ‏قادة الحركة الوطنية اللبنانية الى ميناء ‏بيروت على التاسعة صباحا، يصطف ‏القادة اللبنانيون في أقرب نقطة من سلم ‏الباخرة ويصطف الى جانبهم حرس ‏الشرف الفلسطيني بكامل لباسه ‏العسكري وسلاحه. الى جوارهم فرقة ‏الموسيقى العسكرية الفلسطينية ووراء ‏الجميع يقف مندوب فيليب حبيب ‏لمراقبة المشهد وللتأكد من ان لا يحدث ‏أي خلل في الترتيبات‎.‎
تقوم يا أبو عمار باستعراض حرس ‏الشرف، ثم تعزف الفرقة الموسيقية ‏النشيدين الوطنيين اللبناني ‏والفلسطيني. تسلم على مودعيك ‏وتصعد الى سطح السفينة اليونانية، ‏وعلى الفور تغادر السفينة تحرسها من ‏الجو مروحيات تابعة للأسطول ‏السادس الامريكي ويتقدمها ويحيط بها ‏في البحر زوارق حربية اطلسية‎. ‎ضحك أبو اياد وقال سبحان الله اتينا ‏الى هذا البلد متسللين وها نحن نخرج ‏منه بزفة اطلسية‎.‎
اظهر القائد العام رضاه عن الترتيبات ‏التي عرضها أبو الوليد، نظر بزهو ‏الى زملائه الكبار وقال:‏
‎ ‎‏-‏‎ ‎شوفو الفرق بين اول عرض وآخر ‏عرض. مهي الحرب يا اخوانا عض ‏أصابع والمهزوم هو اول من يقول أخ ‏وانشاء الله لن نقولها ابدا‎.‎
ابتسم أبو الوليد وحين يبتسم تختفي ‏عيناه. تذكر انه تجادل حول هذه النقطة ‏في وقت سابق مع القائد العام. والان ‏قال أبو الوليد‎: ‎
‏- هذا آخر ما عندي‎.‎
‎ ‎استل من الملف ورقة وقال:‏
‎ – ‎هذا هو الرد الأمريكي على طلبك ‏بالحصول على ثمن سياسي لقاء ‏الخروج. انفرجت اسارير القائد العام ‏ووجه لوما لابي الوليد بسب تأخره في ‏تقديم هذه الورقة التي اعتبرها عرفات ‏واحدة من الخلاصات السياسية لمعركة ‏بيروت الكبرى. تجاهل أبو الوليد لوم ‏عرفات لأنه كان يعرف ان ليس فيها ‏ما يستحق زفها كبشرى، وتلا الرد ‏المكتوب باللغة الإنجليزية. كان فيه ‏عرض للموقف الأمريكي من ترتيبات ‏الخروج مع الاشارة الى ضمان امن ‏الخارجين، اما ما كان ينتظره أبو ‏عمار فقد كان نصه على النحو التالي:‏
‎ – ‎فيما يتصل بطلب الفلسطينيين‎. ‎‏ ‏Political bonus‏ ‏‎ ‎لقاء خروجهم ‏فبإمكانهم بحث الامر مع المصريين‎.‎‏ ‏
‎ ‎سارع أبو عمار الى السؤال‎:‎
‏-‏‎ ‎‏ هل هذا كل شيء ام ان في الورقة ‏ما هو أكثر من ذلك.‏
قال أبو الوليد:‏
‎ – ‎بشأن هذا الامر فهذا هو كل شيء.‏‎ ‎
استشاط أبو عمار غضبا. فما سمعه لا ‏يعني شيئا ولا ينطوي على أي قدر من ‏التزام سياسي. قال غاضبا انه كلام ‏فارغ لا معنى له ولا يستحق ان ينظر ‏اليه‎ political bonus ‎‏ انه مصطلح ‏غير سياسي، تستخدمه الشركات لمنح ‏العاملين مكافآت إضافية في نهاية كل ‏سنة فعلى من يضحكون. وهل حقوقنا ‏عند المصريين ام عندهم وعند ‏الإسرائيليين. نظر ناحية أبو الوليد ‏وقال لنعد ردا قاسيا على هذه الرسالة ‏السخيفة.‏
تدخل أبو اياد وقال:‏
‎ – ‎لا لزوم للرد فهي رسالة مغفلة من ‏العنوان والتوقيع‎.‎
ايده أبو الوليد الذي خشي ان يكون رد ‏فعل أبو عمار على الرسالة مدمرا ‏للجهود الناجحة التي اثمرت ما سعى ‏اليه من خروج آمن ومشرف لأبو ‏عمار والقيادة والمقاتلين.‏
استطرد أبو اياد قائلا:‏‎ ‎
‎ – ‎لم اكن أتوقع اكثر من هذا. فلماذا ‏يعطونا ثمنا سياسيا للخروج. انهم ‏يعتبرون خروجنا احياء وبالصورة ‏التي وافقوا عليها هو الثمن المستحق ‏بعد هذه الحرب الطويلة. على كل حال ‏لنحتفظ بهذه الورقة وبعد الخروج ‏نعرضها على اشقائنا واصدقائنا ‏وحلفائنا لعلنا نجد من بينهم من ‏يستطيع البناء عليها. وأول من يتعين ‏علينا ان نبحث الامر معهم هم اخوتنا ‏المصريون، ما دام الامريكيون ‏ذكروهم بالتحديد‎.‎
اظهر أبو الوليد دعما متحمسا لموقف ‏أبو اياد، واظهر ابو جهاد تفهمه بان ‏هز رأسه موافقا. لم يجد القائد العام ‏حجة يسوق بها موقفه الذي سيؤدي ‏حتما الى معركة يراها زملاؤه في غير ‏وقتها بل ولا لزوم لها‎.‎
أشار أبو الوليد الى احتمال تفجر ‏الوضع في اللحظة الأخيرة لان ‏الإسرائيليين يريدون ذلك، وقال:‏‎ ‎
‏-‏‎ ‎‏ هذا هو تحليل اخوتنا اللبنانيين‎.‎
غُلب أبو عمار على امره وقال:‏
‏-‏‎ ‎‏ ما دمتم ترون الأمور هكذا فعلى ‏بركة الله‎.‎
وصل أشرف الى مكان الاجتماع ‏الصباحي. كان يحمل الرسالة التي ‏طبعت كي ترسل الى الرئيس حافظ ‏الأسد بناء على قرار القيادة المشتركة. ‏اختطف أبو اياد الرسالة من يد حاملها ‏وقال ضاحكا:‏
سأتلوها عليكم لأنني أحب التأكد من ‏انها تضمنت اشادة بالرئيس حافظ ‏الأسد‎ ‎
تلا الرسالة. كانت الاشادة واضحة بل ‏ومبالغ فيها. نظر القائد العام ناحية ‏رفاقه وقال‎: ‎
‏- موافقين يا اخوانا‎ ‎
ردوا جميعا‎:‎
‏-‏‎ ‎‏ طبعا
وسأل:‏
‎ – ‎حد عندو إضافات او ملاحظات؟
كان هذا السؤال من اجل اظهار نزعة ‏ديموقراطية لدى القائد المتهم من قبل ‏زملائه بالتفرد. ردوا جميعا
‎ – ‎في الرسالة ما يكفي ويزيد
‏- اذا على بركة الله
استل القلم من الجيب المثبت على ‏ساعده الايسر وفوق اسمه وصفاته ‏التي تملأ ما تبقى من الصفحة، وضع ‏توقيعه وسلم الرسالة لأبو الوليد وقال:‏
‎ – ‎بذلك انهينا كل شيء
وعقب بما يخالف الإشادة المبالغ فيها ‏بالرئيس حافظ الاسد‎ ‎
‎ – ‎وانا بقللكم يا اخوانا كمان مرة انو ‏ما ان اضع قدمي على الباخرة ‏اليونانية ينتهي نفوذ حافظ الأسد على ‏القرار الفلسطيني.‏‎ ‎
اقترحت عليه ان يغفو قدر ما يستطيع، ‏فقال:‏
‎ – ‎مخلاص اتفقست نومتي
لكنه دخل الى الغرفة لدقائق خرج ‏بعدها بكامل هندامه العسكري. أحبَّ ‏توديع رجال الكتيبة المعنوية الأولى. ‏كان قد تبقى منهم حتى تلك الساعة ‏ميشيل النمري، الذي كان اول من ‏عانقه القائد العام وكاد يقتلع خصلة من ‏شعره وهو يشدها بعنف، تلاه أمجد ‏ناصر صاحب الموقعة الشهيرة معه. ‏قال القائد العام:‏
‏-‏‎ ‎‏ شفت يا ماجد يا خويا ازاي قدرنا ‏عليهم. صححنا الاسم للمرة الثانية.‏
‎ – ‎انت باقي هنا ولا حتغادر معنا
أجاب:‏
‎ – ‎لأ باقي
‎ – ‎طيب خلينا نشوف حتكتبوا ايه عن ‏اللي حصل.‏‎ ‎وانت يا طاهر؟
معاك يا سيادة الرئيس.‏
نظر الي وكنت آخر من تحدث معه ‏وقال:‏
‏-غلبتك واتعبتك دنتا معايا من الصبح ‏للصبح‎ ‎
‎ – ‎تعبك راحة قلت
ادار ظهره لي وقال مش حودعك مهو ‏انت طالع معايا على نفس الباخرة‎.‎
عدت الى الشرفة، جلست في انتظار ‏فنجان قهوتي الصباحي، شاهدت ‏الرجل وهو يحشر نفسه في السيارة ‏الصغيرة التي غادرت المكان للمرة ‏الأخيرة.‏