نبيل عمرو والحلقة السابعة من كتاب “أطول أيام الزعيم”

بي دي ان |

24 أكتوبر 2021 الساعة 12:49م

وصلنا الى الساحة الصغيرة ‏التي تتموضع فيها السيارة ‏التي تحمل جهاز البث ‏لإذاعتنا، والى جوارها تقع ‏جامعة اللاهوت. ‏
كان الدكتور فتحي الذي ‏يعمل رئيسا لجمعية الهلال ‏الأحمر الفلسطيني، وهو ‏شقيق القائد العام وشديد ‏الشبه به، قد حول الجامعة ‏الدينية الى مستشفى ميداني. ‏وبحكم موقعه في قلب ‏بيروت الغربية فقد كان ‏يستقبل مئات الحالات يوميا، ‏وحوله افترشت الالاف ‏الأرض ظنا منها بأن باحة ‏المستشفى واطرافه ‏والشوارع المؤدية اليه هي ‏أكثر الأماكن امنا في المدينة‎.‎
اغرى المشهد الشعبي القائد ‏العام بالقيام بزيارة تفقدية ‏للمشفى الضخم الممتلئ عن ‏بكرة ابيه بالنزلاء من ‏الجرحى والمرضى‎.‎
دلف فتحي بالسيارة الى ممر ‏خلفي عرفنا فيما بعد انه ‏يستخدم لنقل الموتى‎.‎‏ ‏
أنزلنا على الباب الخلفي، ‏وابلغ القائد العام بأنه ‏سيحاول استبدال السيارة ‏بأخرى مصفحة. كان الناس ‏يملؤون المداخل والممرات. ‏وحين شاهدوا القائد العام ‏بينهم تحلقوا حوله وراحوا ‏يعانقونه ويهتفون بحياته.‏‎ ‎
فاجأنا الدكتور فتحي بقدوم ‏صاخب على رأس مجموعة ‏من الأطباء يرتدون زيهم ‏الأبيض، وبعضهم تنتشر ‏على بياض ملابسهم الناصع ‏بقع من الدم‎.‎
عانق الدكتور فتحي شقيقه، ‏وافسح في المجال لزملائه ‏بمعانقته وبعد ان هدأ ‏الاحتفال قال الدكتور فتحي:‏
‏-‏‎ ‎‏ مكتبي في الدور الاخير، ‏هل ترغبون في الصعود‎ ‎
كان المولد الكهربائي يعلن ‏بصخبه ان المصعد جاهز ‏للعمل وكانت رائحة ‏الرطوبة والأدوية وازدحام ‏الناس تشجع على قبول ‏عرض رئيس الهلال الاحمر ‏بالصعود الى مكتبه، مع رفع ‏التحفظ على استخدام المصعد ‏الذي امتلأ لدرجة الازدحام، ‏فوجئت بالدكتور فتحي يقول‎:‎
‎ – ‎الحمد لله ان الأخ نبيل ‏معك، منذ أيام ونحن نبحث ‏عنه ونحاول الاجتماع به ‏لأمر بالغ الأهمية‎.‎
ظننت ان الدكتور راغب في ‏تغطية إذاعية لأنشطة ‏جمعيته التي كانت تقوم ‏بالفعل بدور حيوي.‏
‏ قلت‎:‎
‎ -‎ها أنذا في قبضتك ولك ان ‏تأمر بما تشاء.‏‎ ‎
غادرنا المصعد، وجلس ‏الرئيس وراء مكتب شقيقه ‏وجلست على مقربة منه، ‏سأل:‏
كيف تجري الأمور على ‏جبهتكم؟ هل تحتاجون ‏لشيء؟ فوجئت مرة أخرى ‏بالدكتور فتحي يقول:‏
‏-‏ حاجتنا الوحيدة بيد اخينا ‏نبيل. هو وحده بعد اذنك ‏يا سيادة القائد من يملك ‏حلا لمشكلتنا المستعصية‎!‎
ما زلت رغم مرور أكثر من ‏شهرين على الحرب وعمل ‏الإذاعة المتنقلة، اظن ان ‏المكان الذي اخترناه لرسو ‏سيارة الإذاعة ما يزال سريا، ‏الا ان هذا الظن تبدد حين ‏افصح الدكتور عن غرضه ‏من مخاطبتي وبحثه الملح ‏عني.‏‎ ‎
‎ -‎اخ أبو عمار نعرف أهمية ‏الإذاعة في الحرب، ونعرف ‏مدى تعلق الناس بها وحتى ‏هنا في المستشفى لا تخلو ‏قاعة من راديو او عدة ‏راديوهات مثبتة على صوت ‏فلسطين، الا ان وجود ‏هوائيات الارسال على سطح ‏هذا المستشفى الرئيس، لابد ‏وان يعرضنا للخطر. واطنب ‏في شرح أهمية المستشفى ‏وخطورة تعريض الالاف ‏من نزلائه والمنتشرين حوله ‏لخطر القصف.‏
‏ لذا‎ … ‎يا اخ نبيل وانت تقدر ‏الوضع جيدا ارجوك انا ‏وزملائي الأطباء ‏والممرضون والمرضى ‏والجرحى واستحلفك بأرواح ‏الشهداء ان تزيح هذا ‏الكابوس عن صدرنا.‏‎ ‎
كان هوائي الارسال مثبت ‏على سطح المشفى كحبل ‏غسيل، غير انني كنت أدرك ‏ان نقل الهوائي يتطلب نقل ‏المعدات المثبتة داخل شاحنة ‏ضخمة. صحيح اننا كنا ‏نسميها بالمتنقلة، الا انها لم ‏تكن كذلك، تماما اذ ان ‏تحريكها او نقلها من مكان ‏الى اخر يحتاج الى جهد ‏هندسي دقيق، وتجارب ‏تستغرق وقتا طويلا حتى ‏يستقر البث وينتظم ويلتقطه ‏ويتابعه الناس. تبادلت والقائد ‏العام نظرات فيها دعوة من ‏جانبي للتواطؤ وقبل ان ‏يتورط برأي او قرار، قلت:‏‎ ‎
‏-‏ تكرم يا دكتور فتحي ‏عندما يحل الليل سننقل ‏الإذاعة من الحي كله.‏
بارك الله فيك قال الدكتور ‏فتحي بحماس، وايده شقيقه. ‏شربنا العصير كنخب قرار ‏تخليص المشفى من كابوس ‏هوائيات الإذاعة، والتهمنا ‏حلويات كان أعدها مطبخ ‏المستشفى الضخم. لم ‏يساورني أي قلق او تأنيب ‏ضمير لكوني اخدع الجميع. ‏فنقل المستشفى الضخم بكل ‏ما فيه وما حوله الى آخر ‏العالم أقرب الى التحقق من ‏نقل الإذاعة عدة أمتار من ‏مكانها‎.‎
كنت متأكدا من تفهم القائد ‏العام لمناورتي على الدكتور ‏فتحي وزملائه من الأطباء ‏والاداريين. كان الدكتور ‏فتحي على حق حين طالب ‏بنقل الإذاعة من موقعها ‏الملاصق لجدار المستشفى ‏الضخم الذي أقامه في اول ‏أيام الحرب وتحول بحكم ‏موقعه في قلب بيروت ‏وقربه من أحد اهم ‏مستشفيات العاصمة أي ‏مستشفى الجامعة الامريكية، ‏حيث الدعم المتبادل بين ‏المستشفيين في كافة ‏المجالات، تحول الى ‏مستشفى رئيسي يتجمع فيه ‏وحوله الاف الجرحى ‏والمرضى و”المتمارضون” ‏وضعفهم من مواطنين ‏تلمسوا الأمان في محيط ‏المستشفى لظنهم بأنه لن ‏يقصف.‏
كنت واخال القائد العام فكر ‏مثلي تماما في امر نقل ‏الإذاعة انها الوحيدة بعد ‏تدمير الرئيسية في صيدا، ‏من تنقل اخبار الحرب، ‏وتبث في الناس حالة معنوية ‏هي من أكثر الضرورات ‏ضرورة في حرب كهذه.‏
حين كانت الإذاعة تتوقف ‏بفعل عطل فني طارئ او ‏لمتطلبات الصيانة، كانت ‏الحالة المعنوية للمواطنين ‏والمقاتلين تصاب بتشوش ‏وزعزعة، كما لو ان الإذاعة ‏هي التعبير الادق عن سير ‏المعارك وإذا ما توقفت فكأن ‏هزيمة وقعت.‏
كان في داخلي شعور بأن ‏جهاز الارسال الذي تحمله ‏سيارتان كبيرتان والمعروف ‏لدى الإسرائيليين الذين ‏يستطيعون تحديد مكانه عبر ‏رصد الذبذبات المنطلقة منه ‏لابد وان يقصف. الطائرات ‏الإسرائيلية قامت بتدمير ‏الرئيسية كأول عمل حربي ‏ادته، كتمهيد ضروري ‏لإنجاح الغزو البري. لذلك ‏فإن احتمال تدمير الثانوية، ‏التي صارت اهم المرتكزات ‏المعنوية الفعالة لصمود ‏المقاتلين والمواطنين، تحول ‏هاجسا لم يفارقني طيلة أيام ‏الحرب، فضلا عن ان نقل ‏جهاز الارسال الذي تحمله ‏سيارتان ضخمتان لابد ان ‏يوقف البث لأسبوع واحد ‏على الأقل. وهذا ما لا يمكن ‏تصوره ونحن في الأيام ‏الأخيرة للحرب. وفي الأيام ‏الحاسمة لترتيبات الخروج، ‏التي لو فشلت لعادت الحرب ‏ثانية بفرص صمود اقل من ‏جانبنا، كان يجب ان يبقى ‏كل شيء على حاله.‏
بدأت الشمس العنيدة ‏بالإسراع في رحلتها الازلية ‏الى ما وراء البحر. لم يعد ‏من اللائق إطالة وجودنا في ‏المستشفى أكثر مما فعلنا وإلا ‏ستطالنا شبهة أننا لم نأتي من ‏اجل التفقد وانما من اجل ‏الاختباء‎.‎
عانق القائد العام شقيقه ‏ومساعديه، هبطنا ثلاثتنا الى ‏الأدوار السفلية مستخدمين ‏المصعد حيث يفترض ان ‏فتحي الثاني في انتظارنا. ‏كان الحديث اثناء رحلة ‏الهبوط مركزا حول الإذاعة، ‏ذلك من اجل ان يتأكد رئيس ‏الهلال من ان استعدادي ‏لنقلها سينفذ منذ اللحظة‎.‎
‏-‏ الى أين؟
‏ كان فتحي قد استغل طول ‏زيارتنا للمشفى وقام ‏باستبدال السيارة، الا انه ‏كلف أحد العاملين معه ‏العناية بسيارتي واللحاق بنا ‏أينما نذهب. اننا الان في ‏سيارة صغيرة ولكن ‏مصفحة. ربما ننجو من ‏قنبلة تلقى عليها او لغم ‏ينفجر على مقربة منها او ‏صلية رشاش من متسلل ‏تعرف على من بداخلها. الا ‏انه في زمن القنابل ‏الفراغية وراجمات ‏الصواريخ والقنص ‏بالطائرات فلا شيء ينفع ‏غير التمويه الجيد. قبل ان ‏نقطع الممر الذي تستخدمه ‏سيارات نقل الموتى أبلغنا ‏فتحي بأهم خبر تمنيناه في ‏ذلك اليوم الطويل.‏‎ ‎
‎ – ‎اخ أبو عمار، بينما كنت ‏افتش عن مكان لركن ‏السيارة التقيت بمرافق الأخ ‏محسن إبراهيم. كان يفتش ‏عنك منذ قصف الصنايع، ‏واعطاني هذه الرسالة. وقال ‏فتحي، ربما فيها حل ‏لموضوع اجتماع الليلة‎.‎
بلهفة تناول القائد العام ‏الورقة، انفرجت اساريره، ‏ناولني إياها وقال:‏
‎ – ‎كم هذا الرجل وفي ‏واصيل
اضفت:‏
‏-‏‎ ‎‏ وضروري
تقول الرسالة … قلقنا عليك ‏ولكننا سعدنا بأنك نجوت ‏فالحمد لله على السلامة، ‏علمت من مصادر خاصة ان ‏الرئيس حافظ الأسد قرر ‏استقبال أي عدد من القوات ‏الفلسطينية في سورية، اننا ‏بحاجة الى اجتماع عاجل ‏للقيادة المشتركة، انتظرك في ‏بيت حكمت‎.‎
كانت بيروت وعلى مدى ‏ساعات ما قبل الظهر قد ‏وقعت والعالم كذلك تحت ‏تأثير خبر نقلته الإذاعات بأن ‏القصف الذي تعرضت له ‏غرفة عمليات الصنايع قضى ‏على عرفات، الذي كان ‏متواجدا في قبوه. ولأن ‏زملائي في الإذاعة عرفوا ‏انني غادرت مع القائد العام ‏منذ الصباح الباكر ولم اعد، ‏فقد ظنوا وربما حد التأكد ‏بأنني صرت شهيدا. غير ان ‏هذه الظنون تبددت جزئيا ‏بعد ان أعلن محمود اللبدي ‏رئيس الاعلام الخارجي في ‏مؤتمر صحفي بأن عرفات ‏لم يكن في البناية المدمرة ‏وانه ما يزال على قيد الحياة ‏ويواصل عمله في قيادة ‏المعركة. إذا الى حيث أبو ‏خالد “المنقذ والمخلص” فهو ‏الاقدر في مثل هذه الظروف ‏على تدبر امر مكان ‏الاجتماع الذي قد يكون الأهم ‏والأخير في بيروت‎.‎
‏”سلبد” واسمه الحقيقي فتحي ‏الرازم من أبناء خليل ‏الرحمن ومن مواليد القدس، ‏حباه الله ابتسامة خلقية لا ‏تغادر وجهه حتى لو كان في ‏جنازة. واشتهر بتواضع ‏احبه فيه كل من له صلة ‏بالقائد العام. كان شديد ‏التهذيب. صوته منخفض ‏على الدوام كما لو انه لا ‏يعرف التكلم الا بالهمس. ‏يعرف ماذا يريد رئيسه ‏بمجرد نظرة منه ويعرف ‏مستويات القرب والبعد عن ‏القائد من قبل مكونات ‏إمبراطوريته مترامية ‏الأطراف. يعرف المقربون ‏منه الأصدقاء والحلفاء وحتى ‏المؤلفة قلوبهم، انه دائما في ‏حالة اندماج مع رئيسه، الذي ‏كان حين يطلب ورقة جاءته ‏قبل زمن طويل، يتذكرها ‏فتحي ويساعد الجهاز ‏الإداري على إخراجها من ‏الأرشيف، حين لم يكن في ‏كل مؤسسات الثورة أجهزة ‏كمبيوتر حتى من ذلك النوع ‏الذي يمتلكه الأطفال في هذا ‏الزمن. كان فتحي يعرف ‏عناوين جميع من هم على ‏صلة بالزعيم، وأرقام ‏هواتفهم بما في ذلك بيت ‏حكمت، أحد أقرب الاقربين ‏لمحسن إبراهيم. توجه بنا ‏على الفور الى هناك وخلال ‏دقائق كنا وصلنا الى باب ‏البناية المقصودة، الّفنا نكتة ‏ضحكنا منها القائد وانا‎ …‎
‎ – ‎لم يا ختيار لا نسمي هذا ‏اليوم الطويل بيوم المولدات. ‏كان المصعد يعمل ومدخل ‏البناية مضاءً بالنيون ‏والحراس الذين صاروا ‏يحبون ارتداء الملابس ‏المدنية ينتشرون في المكان‎.‎
فوجئ أبو خالد وحكمت ‏بياسر عرفات الذي خرج ‏حيا من الركام الذي تخيلوه، ‏يقتحم الشقة كما لو انه ‏صاحبها، وبعد احتضان ‏وعناق القى بجسده المنهك ‏على كنبة وثيرة، وشرع في ‏خلع حذائه والتخلص من ‏قبعته العسكرية و”الفلدة” ‏التي لا تغادره صيفا وشتاءً. ‏كان قد افادني بعد سؤال انه ‏يفضلها لكثرة الجيوب فيها ‏ولأنها تخفي حزام الرصاص ‏والمسدس‎.‎
محسن إبراهيم أحد المع ‏واذكى القادة اللبنانيين ‏والعرب وصاحب أوسع ‏معلومات عن الحياة السياسية ‏ورجالها ونسائها ومعظم ‏اقطابها في العالم العربي ‏ونجومها وحتى المجهولين ‏منها، كانت صفته الرسمية ‏امين عام منظمة العمل ‏الشيوعي. وفي حياة المغفور ‏له كمال جنبلاط كان نائبا له ‏في رئاسة الحركة الوطنية ‏والتقدمية في لبنان. كان ‏محسن إبراهيم صديقا مقربا ‏من جمال عبد الناصر ومن ‏خصائصه الشخصية انه ‏ضئيل الجسم لا شعر يعلو ‏رأسه الصغير. يحب ارتداء ‏الملابس الانيقة وأحيانا بدلة ‏سفاري التي كانت مفضلة ‏عند زملائه من قادة الحركة ‏اللبنانية والفلسطينية. حلو ‏الاطلالة دمث الخلق متمكن ‏من اللغة حين يعتلي منبر ‏الخطابة، بارع في استنباط ‏الطرائف في أحلك الظروف ‏وفي رحلته الطويلة مع ياسر ‏عرفات لا اسرار تحجب عنه ‏ولا خطة رئيسية او موقف ‏مفصلي يرى النور دون ان ‏يضع لمساته عليه. ليس في ‏امر يخص الحالة اللبنانية بل ‏في أي امر يعترض الوجود ‏‏”الثوري” المشترك بين ‏الفلسطينيين واللبنانيين. كنا ‏بحاجة الى وقت هادئ ‏نقضيه مع أبو خالد‎.‎