نبيل عمرو والحلقة السادسة من كتاب أطول أيام الزعيم

بي دي ان |

24 أكتوبر 2021 الساعة 12:47م

كانت الشمس ما تزال ‏مستقرة في السماء الزرقاء، ‏وتضيء المدى كما لو انها ‏أنوار كاشفة. انها تعاندنا، ‏ونظراً لحاجتنا المتلهفة ‏لغروبها الا انها بدت لي ‏ثابتة في مكانها. وفي شهر ‏آب تطيل الشمس تموضعها ‏في كبد السماء، وتظل ترسل ‏ضياءها الى ما بعد الثامنة ‏مساءً. ‏
‎ -‎ما رأيك بزيارة تفقدية ‏لإدارة مؤسسة صامد؟‎ ‎
‎ – ‎هل ما يزالون في موقعهم ‏هنا في برج البراجنة ؟
‎ -‎لا ان زميلنا رئيس الجمعية ‏نقل المقر قبل اندلاع الحرب ‏بأيام الى بناية تحمل اسما ‏لافتا “البيت الأبيض”.‏
‏-‏‎ ‎‏ اذا كان قريبا من هنا فلا ‏بأس. ‏
دقائق معدودات وصلنا الى ‏البيت الأبيض الواقع في ‏شارع خلفي متفرع عن ‏شارع الحمرا. كنت اعرف ‏ان أبو العلاء استأجر شقة ‏في الطابق الأول، وسبق ان ‏زرته فيها. تسلقنا الدرجات ‏القليلة. صعق رئيس الجمعية ‏حين رأى القائد العام وقد ‏اقتحم المكان. لم يكن ليتوقع ‏زيارته. كان جالسا ومعه ‏بعض من مساعديه وضيوفه ‏حول صينية مليئة بسمك ‏سلطان إبراهيم المقلي. كان ‏السمك في الايام الأخيرة من ‏أيام الحرب يجمع عن ‏الشواطئ دون حاجة الى ‏زوارق وديناميت وشباك ‏وغيرها من أدوات الصيد. ‏اعتذر الزعيم عن مشاركة ‏أبو العلاء ورفاقه الغداء. اما ‏انا فلم يكن خبز الصاج ‏واللبن الرائب والزيتون قد ‏أشبعني، انضممت الى ‏الآكلين، تناولت سمكة ‏صغيرة وقضمتها، لم أكمل ‏اللقمة اذ دخل المكان أحد ‏الحراس وقال مخاطبا رئيس ‏الجمعية لقد عرف الناس ‏بوصول الختيار وبدأوا ‏بالهرب من البناية وهم ‏يشتمون‎.‎
نهض وقال:‏
‎ – ‎لأ، انا اللي امشي احسن‎ ‎
حاول أبو العلاء ثنيه عن ‏المغادرة، قال وهو يتجاوز ‏الباب مسرعا:‏
‎ – ‎سامحني يا خويا. مهو بعد ‏اللي حصل في الصنايع ‏الناس لازم تخاف‎.‎
قبل صعودنا الى السيارة ‏تقدم منا أحد رجال العميد ‏سعد صايل أبو الوليد وقال ‏هامسا:‏
‎ – ‎العميد يريد لقاءك بأسرع ‏وقت فمعه رسالة.‏‎ ‎
‎ – ‎اصعد نتحدث على ‏الطريق، أمر القائد العام‎.‎‏ ‏
صرنا أربعة. جلس مرافق ‏ابو الوليد الى جانبي وسأل‎:‎
‏-‏‎ ‎‏ الى اين نحن ذاهبون؟ ‏
قلت للرئيس:‏‎ ‎
‎ – ‎نحن على مقربة من فندق ‏البريستول، اقترح ان نلتقي ‏العميد هناك.‏‎ ‎
كان الفندق الباذخ والآمن ‏يعج بالصحفيين العرب ‏والأجانب. ويكتظ صالون ‏الاستقبال فيه بحشد من ‏مراسلي وكالات الانباء ‏ومحطات التلفزيون ‏الأوروبية والأمريكية. كان ‏يعرف ذلك وقلت مشجعا ‏للذهاب الى هناك … ‏وستكون مناسبة لظهورك ‏امام الاعلام بعد انتشار ‏شائعات عن مقتلك‎.‎
قال بحزم:‏
‎ – ‎لا داعي للذهاب الى ‏هناك.‏‎ ‎
كانت قد شاعت في المدينة ‏مقولة ان من ينشد السلامة ‏من القصف والقنص فليس ‏امامه سوى اللجوء الى فندق ‏او مستشفى، وليس عرفات ‏من لا يخطر بباله ان لا ‏يُستخدم دخوله الى الفندق ‏كقرينة عن ان الرجل يختبئ ‏هناك‎. ‎
‏-‏‎ ‎‏ إذا فلنذهب الى منزل ‏السيد سعادة وهو صديق ‏وحليف ولا يبعد سوى مئات ‏الأمتار من هنا.‏‎ ‎
قال فتحي الذي كان يحفظ ‏أماكن سكن القادة ومقارهم‎.‎
تردد في قبول الاقتراح الا ‏ان فتحي قال مشجعا‎: ‎
‎ – ‎الرجل شهم ويحبك ولا ‏مكان انسب من هذا المكان ‏للقاء العميد‎.‎
يبدو ان القائد العام قبل ‏الفكرة الا انه تساءل:‏
‎ – ‎كيف نفاجئ الرجل، قد لا ‏يكون مستعدا لاستقبالنا ‏وربما لا يكون في بيته ‏أساسا.‏
‎ -‎يا سيدي لنحاول.‏‎ ‎
وصلنا الى منزل أحد القادة ‏التاريخيين للحزب القومي ‏الاجتماعي الذي كان يسمى ‏بالسوري، ولحسن الحظ ‏وجدناه واقفا على باب داره ‏كما لو انه في انتظارنا‎.‎‏ هجم ‏القائد العام على صديقه، ‏احتواه بذراعيه وامطره ‏بوابل من القُبل ـ اعتصره ‏بشدة على نحو بدا لي كما لو ‏انه التصق به ولن ينفك عنه‎.‎
‎ – ‎يا اهلا بالزعيم البيت ‏بيتك‎.‎
قال المضيف بعد ان خلص ‏نفسه من أذرع الضيف ومن ‏قُبله‎.‎
أكثر القائد اللبناني التاريخي ‏من عبارات الترحيب بضيفه ‏المهم، ولكن الثقيل في ذات ‏الوقت. كان المضيف بين ‏وقت وآخر ينظر من النافذة ‏المفتوحة الى السماء الزرقاء ‏لعله يكتشف الطائرة التي قد ‏تحيل بيته الى ركام.‏
‏ ‏‎ – ‎اخي الحبيب، استأذنك ‏في المكوث هنا لدقائق ‏معدودات. أخونا العميد أبو ‏الوليد سيسلمني رسالة من ‏المبعوث الأمريكي تتعلق ‏بالثمن السياسي الذي طالبنا ‏به لقاء المغادرة، وأقدر انه ‏سيضعنا في صورة محادثاته ‏حول آخر ترتيبات مغادرة ‏السفن.‏
كان الزعيم يتحدث لمضيفه ‏بلهجة مطمئنة، فلا لزوم ‏للخوف والقلق ما دامت ‏الرسالة القادمة من الإدارة ‏الامريكية لن تنقل بقذيفة. ‏ولبث مزيد من الطمأنينة في ‏نفس المضيف الشهم ولكن ‏المتخوف، قال الزعيم:‏
‏-‏‎ ‎‏ خلاص يا صديقي حنغادر ‏والله يكون في عونكم من ‏بعدنا وعوننا في بعدنا عنكم‎.‎
وصل العميد أبو الوليد. لم ‏يتحدث المفاوض الصبور ‏والمتمكن لا عن ثمن سياسي ‏كان ينتظره القائد العام، ولا ‏عن أي امر يتصل به الا انه ‏القى معلومة انفجرت كقنبلة‎ ‎‎…‎
‎ – ‎ابلغني ضباط الارتباط ‏اللبنانيون ان السيد فيليب ‏حبيب حصل على موافقة ‏الرئيس حافظ الأسد استقبال ‏أي عدد من القوات ‏الفلسطينية الراحلة عن لبنان ‏دون قيد او شرط‎.‎‏ ‏
قبل تفجير هذه القنبلة كانت ‏حسابات عرفات تقوم على ‏أساس ان السوريين لن ‏يستقبلوا أكثر من ألف ‏وخمسمائة مقاتل وهو عدد ‏ضئيل للغاية، وكان من ‏ضمن أوراقه التي تؤجل ‏المغادرة “ماذا سنفعل بالذين ‏سيبقون؟
كانت سورية هي قبلة معظم ‏الذين سيخرجون. عائلات ‏عدد كبير من قوات عرفات ‏كانت تقيم في سورية، فضلا ‏عن انها أكثر قربا من ‏التجمعات الفلسطينية سواء ‏تلك التي في لبنان او ‏الأردن. كان المنفى السوري ‏نموذجيا بالقياس للمنافي ‏الأخرى كالسودان والجزائر ‏واليمنين الخ.‏
سأل المضيف اللبناني الذي ‏كان متابعا لمفاوضات ‏الخروج وما كان يوصف ‏آنذاك بالعقدة السورية بفعل ‏العدد الضئيل لمن أعربت ‏دمشق عن استعدادها ‏لاستقبالهم.‏‎ ‎
‎ – ‎اذا بعد ان حلت العقدة ماذا ‏ستفعل يا أبو عمار؟
‎ -‎لا استطيع اتخاذ القرار ‏بمفردي سأدعو القيادة ‏المشتركة الى اجتماع الليلة‎.‎
خرجنا من منزل السيد ‏سعادة. عانقه الرئيس بشدة ‏حتى خيل الينا انه التصق به ‏ولن ينفصل عنه. كان عناق ‏شكر على الاستضافة، ‏ووداعا من النوع الذي لا ‏لقاء بعده.‏
أصبح في سيارتي ضيف ‏جديد هو العميد أبو الوليد، ‏الذي كان يؤدي اهم وأخطر ‏مهمة في زمن الحرب. بثّنا ‏العميد شكواه من مقولة ‏سرت في بيروت من قبل ‏المزايدين للتشهير به، ووجه ‏لوماً مريرا لبعض الكوادر ‏الفتحاوية التي تساوقت مع ‏المقولة، لقد أطلقوا عليه لقب ‏رئيس “حركة الانسحاب ‏الان”‏‎.‎
‎ – ‎ولا يهمك قال عرفات، هو ‏انت بتشتغل لحسابك وعلى ‏راسك، ما انتا يا خويا كل ‏خطوة بتخطيها مغطاة بقرار ‏مني ومن اخوتك في القيادة ‏العليا الفلسطينية واللبنانية‎.‎
قال أبو الوليد والمرارة تنزّ ‏من نبرات صوته:‏‎ ‎
‎ – ‎مشكلتي ليست معك ولا ‏مع اخوتنا في اللجنة ‏المركزية ولا حتى مع ‏الإطارات العليا للقوات ‏المشتركة، مشكلتي مع ‏المزايدين الذين لا يعرفون ‏قيمة الوقت ولا يدركون ‏أهمية الترتيبات التي اعمل ‏عليها ليل نهار. لقد أنهكت ‏قواتنا ونفذ صبر المواطنين ‏الفلسطينيين واللبنانيين الذين ‏ينامون ويصحون على ‏قصف وموت ودمار. إذا لم ‏نخرج من بيروت وبأسرع ‏وقت. فإن أي انتكاسة في ‏المفاوضات سيستغلها ‏الإسرائيليون وقد يغريهم ‏ذلك على استكمال خططهم ‏باجتياح الكيلومترات الأربعة ‏التي نتمركز فيها. انني ‏افاوض مع معرفتي الدقيقة ‏بحجم قدراتنا الدفاعية. فقد ‏ضعفت الى حد كبير والحالة ‏المعنوية لم تعد كما كانت في ‏الأيام الأولى وبصراحة وانا ‏لا أحب ان أقول ذلك، ‏الوضع الدفاعي في منطقتنا ‏الصغيرة عسكريا هو صفر‎. ‎
لم يوافق عرفات على ‏استخدام أبو الوليد الذي هو ‏صاحب اعلى رتبة عسكرية ‏في الثورة، لمصطلح قدرات ‏الصفر. كان ابو الوليد ‏ضابطا مميزا ومؤهلا ‏أكاديميا ومهنيا قدم من ‏الجيش الأردني. أكمل علومه ‏العسكرية في أرقي المعاهد ‏والكليات البريطانية ‏والأمريكية. كان تقويمه ‏للوضع بعد شهرين من ‏القتال ينطلق من علمه ‏العسكري كجنرال محترف، ‏بما يختلف عن تقويم ‏المليشيات:‏
‎ -‎الأمور ليست سيئة الى هذا ‏الحد.‏
قال عرفات وكأنه يوجه اهم ‏مساعديه في الحرب ‏والمفاوضات بأن لا يستخدم ‏مصطلح قدرات الصفر. ‏وشرح نظرية عض الأصابع ‏المعتمدة في الاستراتيجيات ‏الحربية والتفاوضية التي ‏يعتنقها وقال:‏
‎ – ‎الخلاصة سلبا او إيجابا ‏يحددها صبر ساعة ويخسر ‏كل شيء من يقول اخ اولا‎.‎
هز العميد رأسه موافقا وقبل ‏ان يترجل من السيارة ‏لاستئناف عمله الشاق ‏والحساس قال:‏‎ ‎
ان رغبة الرئيس الأسد بأن ‏ترسل له رسالة خطية تطلب ‏منه استقبال كل الذين ‏سيخرجون من بيروت من ‏اجل ان يبدو كمن يقدم ‏مكرمة للمقاتلين وليس اذعانا ‏لطلب الوسيط الأمريكي. ‏انت لا تحتاج الى توصية فلا ‏يضر لو تضمنت الرسالة ‏اشادة بمواقف الرئيس الأسد ‏ومأثرته بفتح أبواب سورية ‏لكل المقاتلين‎.‎
‎ – ‎طبعا طبعا‎ ‎‏…. قال ‏عرفات
لا الوقت ولا الظرف ولا ‏ابسط قواعد المنطق السياسي ‏السليم، تجعل عرفات يقول ‏ما بداخله حول الرئيس ‏السوري. كان قائد الثورة ‏يخشى من الجنرال المتحكم ‏بالجغرافيا السورية ومفاتيح ‏الجغرافيا اللبنانية. سلبه ما ‏يعتبره رصيده الاستراتيجي، ‏بل مبرر وجوده وهو قراره ‏المستقل الذي يوفر له حركة ‏بلا قيود وفي كل الاتجاهات، ‏بما في ذلك تلك الجهات التي ‏يرى الأسد علاقة عرفات بها ‏خطراً عليه، سواء كانت ‏داخلية في سورية ولبنان او ‏خارجية على اي مستوى. ‏كان عرفات يعمل على تهدئة ‏خواطر الرئيس الأسد ‏بالكلمات اذ كان لا يتورع ان ‏يقول قائدي في وصفه حين ‏كان يلقي خطابا في دمشق. ‏اما في جلساته المغلقة فكان ‏لا يتردد في البوح بأنه ‏أخطر تهديد للقرار ‏الفلسطيني المستقلّ. ‏
قبل مغادرته همس في اذن ‏أبو الوليد:‏‎ ‎
‎ – ‎انتظر مني مبعوثا ليعلمك ‏بمكان الاجتماع. فربما يكون ‏هذا هو اخر اجتماع تعقده ‏القيادة المشتركة في بيروت، ‏وهي فرصة لأن تعرض ما ‏لديك من معلومات عن ‏مواعيد مغادرة السفن ‏وترتيباتها‎.‎
ما تزال الشمس تقصفنا ‏بأضوائها الاستفزازية ‏الكاشفة. بدا لي ان هذا اليوم ‏الطويل لا ليل له. ونحن ‏ركاب السيارة العادية أبرز ‏المتضررين من بطء رحلتها ‏الى الغرب. ‏
القائد العام رجل ليل. ففي ‏هدأته وامنه وامانه يتوفر له ‏مناخ عمل موات بل ‏نموذجي. الليل يعني الهدوء ‏والتفرغ والتحكم بالوقت مع ‏قدر اكبر من تفادي ‏المراجعين الذين يؤمّون ‏مكتبه طيلة النهار فمن لا ‏تتاح لهم فرصة الدخول اليه ‏وعرض قضاياهم عليه ‏مباشرة وينتظرون خروجه ‏عند اقرب مكان يسمح لهم ‏بالتجمع فيه، يستوقفونه، ‏يجاملهم بالتحية ويأمر ‏مرافقيه بجمع اوراقهم ليتولى ‏موظف مختص من طاقم ‏مكتبه الرد عليها في الليل ‏من اول خيط في الظلام حتى ‏اول خيط في الضياء فكل ‏الوقت له.‏‎ ‎
سألت:‏
‎ – ‎ماذا بشأن اجتماع الليلة‎ ‎
قال‎: ‎
‎ – ‎حين نجد المكان نستدعي ‏الاخوة‎.‎
امر فتحي بتأمين اتصال ‏بالجميع واعلامهم عن ‏الاجتماع الليلة ولينتظروا ‏تحديد الساعة والمكان. ‏