نبيل عمرو والحلقة الرابعة من كتابه الجديد “أطول أيام الزعيم”

بي دي ان |

26 سبتمبر 2021 الساعة 10:24م

القائد العام يتصرف في حالة الصفاء ‏بمنتهى الرقة واللطف مع من يعملون ‏معه. ‏
طلب مني بلهجة متوسلة:‏
‎ -‎معلش يا خويا تسمح تنادي لي فتحي ‏من برة؟
‎ – ‎حاضر‎ ‎
نهضت، تسلقت الدرج، كان فتحي ‏واقفا على ناصية الشارع.‏
‎ – ‎فتحي الختيار عايزك.‏
عدة القاب يتداولها المتعاملون مع ‏عرفات.‏
القائد العام، غالبا ما يستخدم من قبل ‏القوات وقادتهم. والرئيس يستخدمها ‏السفراء والمدنيون والأجانب، والختيار ‏هو اللقب المفضل عند حراسه ‏والعاملين في مكاتبه، اما ابو عمار فهو ‏المفضل عند الغالبية ممن يتحدثون ‏عنه واليه‎.‎‏ اما ما يفضله هو.. فهو ‏اللقب الذي ينادى به، حسب الموقع ‏الذي يكون فيه، والرئيس هو المفضل ‏حين يكون في زيارة رسمية لبلد ‏اجنبي.‏
 

انشغل عن أوراقه. رأيت ان الوضع ‏صار مواتيا لإدارة حوار معه حول ‏التباطؤ في انهاء المفاوضات الجارية ‏مع فيليب حبيب والتي يؤديها عن ‏الجانب الفلسطيني العميد سعد صايل ‏أبو الوليد، من خلال ضباط المكتب ‏الثاني اللبناني، حيث كان المبعوث ‏الأمريكي اللبناني الأصل ممنوعا من ‏الاتصال المباشر مع عرفات او أي ‏أحد من طرفه، ذلك وفق قرار كان قد ‏أوصى به كسينجر واتخذه الكونجرس ‏كتشريع وصار ملزما للإدارات جميعا‎.‎
سألته‎ :‎
‎ – ‎اين وصلت جهودك في امر ‏الحصول على ثمن سياسي لقاء ‏الرحيل؟
أجاب:‏
‏-‏‎ ‎‏ ها نحن نحاول، طلبت دعما من ‏السعوديين والمصريين والفرنسيين ‏والسوفيات وغيرهم.. كلهم وعدوا ‏خيرا، ولكن حتى الان لم تصلنا اية ‏إشارة تدل على استعداد الأمريكيين ‏للاستجابة‎.‎
واستدرك قبل ان أسأل:‏
‏-‏‎ ‎‏ ماذا اطلب منهم، ليس الكثير، ‏الاعتراف بنا او فتح حوار معنا. ‏وأضاف لتعزيز عدالة ومنطقية طلبه: ‏يا سيدي مسامحين في الاعتراف ‏الرسمي المباشر على الأقل يحكو معنا ‏او يلمحوا باعتراف بحقوقنا السياسية‎.‎
سألت:‏
‎ – ‎هل ابلغ حبيب اللبنانيين الذين ‏يعملون كوسطاء بيننا، انه متفهم او ‏متعاطف، فموقفه الشخصي يساعد ‏كثيرا‎ ‎
أجاب:‏
‎ – ‎لم يقولوا شيئا عن موقفه الشخصي، ‏ويبدو انه لا يتحدث معهم في امر ‏كهذا، خلينا نستنا شوي يعني كام يوم، ‏يمكن يحصل تطور.‏
كان عرفات يفكر وربما حد الاقتراب ‏من اليقين، بأن حرب لبنان الطويلة ‏فتحت نافذة امل باحتمال تغير ‏دراماتيكي في الموقف الأمريكي ‏تجاهه، وتجاه سعيه الدؤوب للدخول ‏في نادي التسوية الذي تملك واشنطن ‏اقفاله ومفاتيحه وختم العضوية ‏المعتمدة فيه. ‏

كان يعتقد ان الشروط الموضوعية ‏لاعتماده شريكا في المعادلة السياسية ‏الشرق أوسطية قد تعززت بصموده ‏في حرب غير متكافئة مع إسرائيل، ثم ‏ان رهانه على ان كل يوم صمود هو ‏خطوة لدخول المعادلة. كانت هذه كلمة ‏السر في مناوراته وتكتيكاته لإطالة امد ‏الحرب. لم يكن رهانه هذا مضمونا، ‏ذلك أن إسرائيل لم تقم بهذه الحرب ‏الواسعة التي تكبدت فيها خسائر فادحة ‏من اجل ان تخرجه من النافذة ‏العسكرية لتدخله الى المعادلة من الباب ‏السياسي. كان يتجاهل أي تحليل يقال ‏له ويفضي الى ان شارون ما جاء الى ‏بيروت لإخراجه من تلك العاصمة ‏النوعية والفعالة في مجال السياسة ‏والاعلام والعلاقات الدولية، الا لأنه ‏شعر باقتراب الظاهرة الفلسطينية التي ‏يقودها ياسر عرفات من الحصول على ‏اعتراف دولي يجعل قيام الدولة ‏الفلسطينية مسألة وقت. ‏
لم يكن ليصغي لهذا التحليل لأنه لم ‏يكن راغبا في احباط نفسه وتقويض ‏رهاناته. ‏

في جلسة محدودة حضرها أبو اياد ‏وأبو جهاد وأبو الوليد من اجل ارسال ‏خطاب سياسي للمبعوث الأمريكي ‏فيليب حبيب اصر عرفات على ان ‏يكون الاعتراف الامريكي او الوعد به ‏هو المعادل السياسي لمغادرة بيروت. ‏حاول الثلاثة ثنيه عن استخدام كلمة ‏‏”الشرط” واستبدالها “بالمطلب”، اصر ‏على الصيغة التي طرحها وكتبت ‏بالفعل وحملها الجنرال أبو الوليد ‏ليرسلها عبر ضباط الارتباط اللبنانيين ‏الى السيد فيليب حبيب. ‏
قال أبو اياد ليلتها:‏
‏- مع انني غير متأكد من احتمال ‏استجابة الأمريكيين لهذا الشرط الا ان ‏المحاولة لا تضر.‏
كان أبو اياد أكثر براغماتية في التحليل ‏واستنتاج الخلاصات.‏
كلمة سر أخرى لإطالة امد المعركة ‏رغم الخسائر التي ازدادت في ‏منتصف الحرب هي ان عرفات كان ‏يفكر في وضع الثورة الفلسطينية ‏ومنظمة التحرير والقضية الفلسطينية ‏ووضعه السياسي والقيادي بعد ‏الخروج من القاعدة الأهم التي كانت ‏قاعدة قوته الرئيسية، أي الساحة ‏اللبنانية.‏
كان ملزما بالتفكير الجدي في هذا ‏الاتجاه، لأن خسارة الساحة اللبنانية ‏بعد خسارة الساحة الأردنية وخوفه ‏على القرار المستقل من سطوة الساحة ‏السورية وقائدها. كل هذه الخسارات ‏تستحق الخوف.‏
لقد خشي وكان محقا في ذلك، من ان ‏يتحول وجوده في جغرافية الصراع ‏المسلح مع إسرائيل، الى مجرد وجود ‏رمزي مثل مكاتب محدودة الفاعلية في ‏العاصمة عمان، وقوات محدودة العدد ‏تحمل اسم قوات بدر التابعة لجيش ‏التحرير الفلسطيني. وهي بالجملة ‏والتفصيل تحت اشراف كامل من قبل ‏جهاز الاستخبارات العسكرية الأردنية، ‏ومكتب متواضع يتولى دفع الرواتب ‏لأسر الشهداء والأسرى. وهذا لا يعني ‏شيئا يذكر بالقياس لما كانت الأمور ‏عليه قبل ذلك الـ “أيلول الحاسم”. ‏
الساحة السورية التي ستستقبل معظم ‏القوات الفلسطينية الخارجة من ‏بيروت، هي ساحة تشكل قيدا على ‏عرفات وليس ميزة له. من اجلها ابتكر ‏مصطلح القرار المستقل، ذلك ان نظام ‏حافظ الأسد لم يكن حليفا للثورة ‏الفلسطينية بل كان صاحب مشروع ‏للاستيلاء على قرارها. ‏

مصادر الأمان لعرفات كانت بعيدة ‏عنه في الجغرافيا والسياسة: مصر ‏ذهبت بعيدا في علاقاتها المستجدة مع ‏إسرائيل، كان يشعر بعطف المؤسسة ‏المصرية عليه الا انه لم يكن ليعتبر ‏الساحة المصرية مجالا حيويا لمواصلة ‏حروبه التي لا تتوقف. إذا.. ما بعد ‏بيروت هو انتقال من جغرافيا الحرب ‏مع إسرائيل التي انتهت الى جغرافيا ‏الحل السياسي معها، والذي لم يتحدد ‏وضعه فيها بعد.‏
‏-‏‎ ‎‏ فتحي، كأني اسمع دوي طائرة من ‏بعيد دقق في الجو وركز سمعك‎.‎

كانت السماء صافية فنحن في أواخر ‏آب، صفاؤها يشي بأنها تتواطأ مع ‏الطيران الإسرائيلي الذي يفضل العمل ‏في أجواء كهذه‎.‎
نظر فتحي ناحيتي. لمحت تشككا من ‏جانبه فيما قاله الزعيم ولكنه صدع ‏للأمر وغادر مسرعا‎.‎
خمس دقائق غاب فتحي عنا وحين عاد ‏قدم تقريرا أزعج القائد العام‎ ‎
‎ – ‎لا طائرات، كل ما في الامر يا ‏ختيار ان مرور السيارات من فوق ‏الشارع الرئيسي يحدث اهتزازات تبدو ‏كما لو انها صوت طائرة.‏‎ ‎
قول كهذا لم يعجبه، لقد رأى فيه ‏تشكيكا بقدراته العسكرية، وموهبته في ‏الاستنتاجات الدقيقة حتى وفق اقل ‏المؤشرات. زمجر قائلا:‏
‎ -‎يعني يا فتحي انا بتوهم… بتخيل… ‏بحلم، لما بقللك في طيران في الجو ‏يعني في‎.‎
نظر الي كأنه يطلب مني تأكيد ما ‏ذهب اليه وسأل:‏

‎ – ‎انتا سامع‎. ‎
ولكي أفلت من الحرج، حيث لم أكن ‏اسمع شيئا، قلت مخاطبا فتحي:‏
‎ – ‎يا أخي اخرج الى الشارع وتأكد.‏
وبينما كان الشاب يغادر مغلوبا على ‏امره، امطره الزعيم بوابل من كلمات ‏التوبيخ: الله يلعن اللي علمك العسكرية، ‏معقولة ما بتميزش بين صوت الطيارة ‏واهتزاز الشارع.‏
ولكي يظهر ان توبيخه ينطوي على ‏قدر من الدعابة ضحك وقال:‏
‏- الظاهر فتحي مش عايز يخوفنا.‏
‎ ‎
رئيس جهاز الاستخبارات وهو الرجل ‏المفترض ان يظل في كل الحالات ‏على مقربة من الزعيم، اقتحم جلستنا، ‏أدى التحية العسكرية، مع انه كان ‏يرتدي لباسا مدنيا، وقال بلهجة ‏متعجلة‎:‎
‎ – ‎يلا قوموا معي، الناس عرفت انك ‏هون‎.‎‏ كنا نظن اننا في مكان يستحيل ‏على أي أحد الشك بأن القائد العام ‏يتواجد فيه، كرر رئيس الاستخبارات.‏
‏- ‏‎ ‎يلا بسرعة في طيارة في الاجواء
احب طرق الحديد وهو ساخن، ورغم ‏خطورة الحالة التي نحن فيها، الا انه ‏وجد متسعا لترف اثبات سداد رأيه ‏وخطأ تقدير فتحي، نظر الي وقال:‏‎ ‎
‎ – ‎مش قلتلكم انا سامع صوت طيارة‎ ‎‏.‏
قال رئيس الاستخبارات في الحاح منه ‏لإغراء الزعيم. للاسراع في مغادرة ‏المكان‎:‎
‎ – ‎يلا معاي عندي مكان ولا الجن ‏الأزرق يمكن ان يفكر فيه.‏‎ ‎

حشرنا أنفسنا في سيارتي غير ‏المصفحة والتي لم تستبدل بعد، راح ‏رئيس الاستخبارات الجالس الى جانبي ‏يوجه فتحي، ثم أخيرا قال‎ :‎
‎ – ‎هنا توقف.‏
‏- ما هذا؟ نتحصن في بناية زجاجية؟ ‏ان مجرد تفريغ صوت الطائرة يحولها ‏الى كومة من شظايا فما بالك لو ‏انفجرت قنبلة فيها او الى جوارها‎.‎
‏-‏‎ ‎‏ ولا يهمك يا ريس مين بيخطر بباله ‏إنك في بناية زجاجية وفي شارع ‏الحمرا والى جوار السينما‎ ‎‏.‏
منذ ولوجنا البناية الزجاجية بدا لنا ان ‏رئيس الاستخبارات يعيش في زمان ‏ومكان مختلفين تماما. كل شيء يدل ‏على ان لا صلة لهذا المكان بالحرب. ‏بلاط رخامي لامع ونظيف كما لو انه ‏مرآة او انه يغسل كل ساعة، وصوت ‏مولد الكهرباء‎ ‎الذي يصم الآذان يعلن ‏ان المصعد جاهز لنقلنا الى الدور ‏الخامس.‏
انفرج باب الشقة التي تحتل الطابق ‏بكامله عن مشهد مترف يقول بجملته ‏وتفاصيله ان الحرب هي في أي مكان ‏آخر. القى الزعيم بجسده على الكنبة ‏الطرية ذات الغلاف المخملي الناعم، ‏صفّر وهذه طريقته في اظهار ‏الاستغراب مما يشاهد، وقال مداعبا ‏رئيس استخباراته:‏
‎ – ‎اش اش ايه الي انتا عاملو؟
راح يجول بناظريه على أشياء الشقة ‏المترفة، فأجاب رئيس الاستخبارات:‏
‎ – ‎كلو يا ريس من فضلة خيرك‎ ‎
رد عليه:‏
‎-= ‎خيري منين يا حسرة‎ ‎
وصمت وكأني به امتنع عن ان يقول:‏
‏- منذ ساعات لم نجلس جلسة مريحة ‏ولم يدخل جوفنا أي شيء.‏‎ ‎
كانت الساعة المثبتة على الحائط تشير ‏الى الحادية عشرة صباحا. كنا ‏مستمتعين باسترخاء نادر كما لو اننا ‏نجلس في أحد الصالونات الملحقة ‏بكازينو لبنان، او لوبي فندق السان ‏جورج. تقدم منا شاب اسمر البشرة ‏يرتدي بدلة بيضاء ونظيفة ومكوية ‏بعناية، وقميصا ثبتت تحت ياقته ‏فراشة مخملية يسميها خبراء الاناقة ‏بالبابيون. كان يحمل بيده اليمنى ‏صينية فضية شديدة الالتماع، وعليها ‏اكواب من عصير برتقال طازج، اما ‏يده اليسرى فقد وضعها خلف ظهره ‏وفق تعليمات مدربي عمال خدمات ‏الضيافة في المطاعم الفارهة ‏والصالونات. ‏
لم يكن لدينا ترف الاعتذار او حتى ‏اظهار الرصانة ونحن نختطف اكواب ‏العصير كي ندلقها في جوفنا. الزعيم ‏الذي لا يمرر حكاية كهذه مرور الكرام ‏قال‎:‎
‎ – ‎هو ده برتقال طازة ولا علب؟
أجاب المضيف:‏
‎ – ‎هو انا معقول اسقيك عصير علب، ‏صدقا طازة 100‏‎%‎‏.‏

كانت بيروت في الثلث الأخير من ‏الحرب قد خلت تماما من الفواكه ‏والخضار الطازجة، وحتى ملك البطيخ ‏الذي كان أشهر وابذخ معرض فواكه ‏وخضار ويحتل مكانا هاما في بداية ‏شارع كورنيش المزرعة، لم يعد فيه ‏سوى بعض معلبات، ما اظهر التحول ‏المأساوي لأشياء المدينة الباذخة.‏‎ ‎
سأل:‏
‎ ‎‏-‏‎ ‎من اين حصلت على البرتقال ‏الطازج؟ لم يعد في المدينة ولو حبة ‏واحدة.‏‎ ‎
ضحك رئيس الاستخبارات وقال:‏
‎ – ‎هذه هدية من اللي بيني بينك‎ !‎
سأل: ‏
‎ – ‎هو انت بتشوفو؟
أجاب رئيس الاستخبارات:‏
‎ = ‎في أوقات متباعدة ولكني على ‏اتصال يومي معه.‏
سألت موجها حديثي الى رئيس ‏الاستخبارات ومن هو الي بينك وبينو؟
اشاح الرجل بوجهه مظهرا حرصا ‏على الاحتفاظ بأسرار خطيرة، الا ان ‏الزعيم قال بلا اكتراث وبصورة ‏تلقائية‎.‎
‎ – ‎بشير الجميل، هو في غيرو بودي ‏برتقال طازة.‏
كان لدى الزعيم فصيل ضخم من ‏رجال ونساء يقيمون صلات مع قادة ‏ذوي شأن في الجانب الاخر اكثرهم ‏شهرة ولمعانا كان الشهيد أبو حسن ‏سلامة. كانت علاقاته بقائد المليشيات ‏المسيحية المحاربة للوجود الفلسطيني ‏في لبنان بشير الجميل أقرب الى ‏الصداقة. اما شقيقه امين الذي صار ‏رئيسا للجمهورية اللبنانية فيما بعد، فقد ‏كان على صلة وثيقة بالقائد الفتحاوي ‏التاريخي أبو اياد. زاره مخترقا ‏الحصار المحكم حول الجزء الغربي ‏من بيروت حيث يتجمع القادة ‏الفلسطينيون واللبنانيون المستهدفون ‏بالإبادة من قبل إسرائيل‎.‎
اما عرفات فكان يحرص على لقاء أحد ‏قادة حزب الكتائب بصورة مستمرة هو ‏السيد كريم بقرادوني، الذي أصبح فيما ‏بعد رئيسا للحزب.‏
‎ ‎وهكذا فقد كانت العلاقات مع مفاتيح ‏القوى على الجانب الاخر تشمل كل ‏المستويات من الصف الأول حتى ‏الأخير‎.‎
همست في اذنه:‏
‏- هل مضيفنا يعرف بالرسالة القادمة ‏من أمريكا؟
أجاب:‏
‎ – ‎الرسالة مغلقة لي ولكن كويس اللي ‏فكرتني‎. ‎
وابلغ رئيس الاستخبارات بفحوى ‏الرسالة التحذيرية وقال مازحا:‏
‎ ‎‏-‏‎ ‎هي انا يا سيدي بشتغل مخبر عندك ‏بدل ما تقللي انتا بقللك انا؟
مالت بنا البناية الزجاجية كما لو انها ‏آخذة بالسقوط. شاهدنا من النوافذ مطرا ‏من شظايا زجاج ينهمر بفعل قوة ‏الانفجار المكتوم الذي سمعناه وعلى ‏نحو تلقائي، نهضنا جمعيا وهرولنا ‏ركضا الى الطابق السفلي. تخلينا عن ‏ترف الهبوط في المصعد ففي حالات ‏كهذه ينطوي الامر على مجازفة. ‏وصلنا أخيرا الى مدخل البناية ‏الرخامي وتجمعنا في غرفة البواب ‏الضيقة القريبة من مولد الكهرباء، كان ‏صوت المولد يصم آذاننا حتى انه لم ‏يكن بمقدورنا ان نسمع بعضنا. امر ‏الزعيم بوقف المولد.‏
خرجنا من الغرفة الضيقة ووقفنا قرب ‏باب مدخل البناية، شاهدنا مجموعات ‏من الناس تغادر المكان متجهة ناحية ‏الشرق، قدّرنا اول الامر انهم هاربون ‏بفعل صوت الانفجار القريب، الا ان ‏أحدهم قدم لنا الحقيقة المؤلمة، اذ قال ‏صارخا ودون وجل:‏
‎ – ‎كله من تحت راسكم الله يورينا فيكم ‏يوم يا فلسطينية‎.‎
رغم قسوة الكلام الا اننا لم نفاجأ به. ‏كنا نعرف ان رأيا عاما بدأ يتشكل في ‏بعض بيروت حول جملة كهذه. لم يكن ‏كله تلقائيا بل كانت اذاعات فعالة تبث ‏على مدى أربع وعشرين ساعة ‏تحريضا من هذا النوع. ومع انهيار ‏عمارات بكاملها وبعضها على رؤوس ‏ساكنيها، ومع فقدان الامل بنجدات ‏تأتي من أي مكان، بدأ يتسع نطاق ‏السخط إلى حد المجاهرة به. تبادلنا ‏النظرات. لم يكن بوسعنا ان نقول شيئا ‏امام قسوة كهذه.‏‎ ‎
قال قولته التي تكررت كثيرا:‏
‏-‏‎ ‎‏ كان الله في عون الناس‎.‎