ترامب يعبث في مستقبل الناتو

بي دي ان |

20 سبتمبر 2021 الساعة 06:51ص

مازال دونالد ترامب حاضرا في السياسة الأميركية بقوة، ليس في صفقة القرن الفاسدة وافرازها "اتفاق ابراهام" التطبيعي المجاني بين بعض العرب وإسرائيل الاستعمارية، انما في ملفات دولية مختلفة من أبرزها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإعادة صياغة مركبات حلف شمال الأطلسي بمعايير المرحلة الجديدة، ورسم ملامح مغايرة لما كان عليه واقع الحال قبل إدارة الافنجليكاني للعلاقات الأميركية الأوروبية، مع ما يحمله ذلك من عبث بخارطة النظام السياسي الدولي. رغم ان إدارة جو بايدن أعلنت افتراقها عن مخرجات سياسة الرئيس الأميركي السابق، الا انها في الواقع مازالت تراوح داخل اطواقها الحديدية، ولم تغادرها، لا بل انها تكرسها، ومنها ما جرى يوم الأربعاء الماضي الموافق 15 أيلول / سبتمبر الحالي بتشكيل حلف ثلاثي بين اميركا وبريطانيا وأستراليا تحت مسمى "اوكوس"، والذي جاء في اعقاب اعلان استراليا نقضها اتفاقية شراء الغواصات من فرنسا، الموقعة بين الدولتين في عام 2016، وتقدر قيمتها ب90 مليار دولار استرالي، التي تعادل 66 مليار دولار أميركي، وهي الصفقة الأكبر في القرن الحادي والعشرين حتى الان.
وجاء الإعلان عن التحالف الجديد في المؤتمر الذي عقده الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، والاسترالي سكوت موريسون يوم الاربعاء الماضي، وفي اثناء ذلك اعلنت استراليا عن استبدال الصفقة مع اميركا وبريطانيا، واشترت ثمان غواصات تعمل بالدفع النووي، بدل الغواصات الفرنسية التقليدية، التي تعاقدت عليها مع شركة "نفال غروب" الامر الذي اثار غضب واستياء اركان القيادة الفرنسية، واعتبرتها باريس "قرارا مؤسفا." ولم يتوقف رد الفعل الفرنسي عند هذا الحد، انما اعتبرت وزيرة الجيوش، فلورانس بارلي في حديث إذاعي، انه "امر خطير من الناحية الجيوسياسية وعلى صعيد السياسة الدولية.".
واعقبت الخارجية الفرنسية على الحلف الجديد، وإلغاء الصفقة معها ببيان رسمي، جاء فيه "هذا قرار مخالف لنص وروح التعاون الذي ساد بين فرنسا وأستراليا". وأضافت أن "الخيار الأميركي، الذي يؤدي إلى اقصاء حليف مثل فرنسا من شراكة طويلة وتاريخية مع استراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادي (...) يشير إلى عدم ثبات لا يمكن لفرنسا الا ان ترصده وتأسف له "وخلص البيان إلى ضرورة "إثارة مسألة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بصوت عال وواضح. ما من طريقة أخرى جديرة بالثقة للدفاع عن مصالحنا وقيمنا في العالم."
وعقب وزير الخارجية، جان ايف لودريان لإذاعة "فرانس انفو" قائلا "انها حقا طعنة في الظهر. اقمنا علاقة مبنية على الثقة مع استراليا. وهذه الثقة تعرضت للخيانة." وأضاف أن "هذا القرار الأحادي المفاجئ وغير المتوقع يشبه كثيرا ما كان يفعله ترامب."
وفي خطوة فرنسية تصعيدية سحبت سفرائها من كل من كانبيرا وواشنطن. كما استدعت سفيري الدولتين الأميركي والاسترالي لتأكيد رفضها الذرائع والحجج، التي أطلقها المسؤولون الاميركيون والاستراليون لتغطية الطعنة التي وجهوها لها. وعلى إثر ذلك صرح المفوض الأعلى للسياسات الخارجية الأوروبية، جوزيب بورل، ان الوقت اصبح ملحا اكثر من أي وقت مضى لقرار مستقل للاتحاد يحافظ على سيادته ويجعله قادرا على اتخاذ قرارات لها علاقة مباشرة بمصالحه."  
من المؤكد ان التداعيات الناجمة عن الحدث الخطير، لن تتوقف عند حدود سحب السفراء واستدعاءهم، ولا عند حدود اصدار البيانات والمواقف السياسية الغاضبة، وانما ستكون ابعد من ذلك، وهذا ما حملته ردود الفعل الفرنسية والأوروبية، التي مثلها المفوض الأعلى للسياسات الخارجية. لا سيما وان الولايات المتحدة تعمل بخطى حثيثة على تعزيز مكانة الحلف الانكلو سكسوني على حساب حلف الناتو، او اعتبار حلف الأطلسي درجة ثانية في سلم الأولويات. لا سيما وان الصراع الانكلو سكسوني الفرانكوفوني تاريخي، وليس جديدا. ويبدو ان هناك جمراً تحت الرماد يزداد احتراقا اشعله الرئيس العنصري ترامب طيلة ولايته، ووضع ألف إسفين في مركبات الحلف القديم، الذي بات عبئا على اميركا، أكثر مما هو سندا لها. وفرنسا ومعها العديد من دول أوروبا لن تقبل المنطق الأميركي البريطاني، خاصة وان بريطانيا لم تغادر للحظة الحضن الأميركي. أضف الى ان عملية تقاسم النفوذ بين الأقطاب الدولية لم تستقر حتى اللحظة، وما جرى في الصفقة الأسترالية الأميركية اعتبر اعتداءً صارخا على مصالح وحصة سيدة الفرانكوفونية، مما يعني ان اسفينا عميقا ضرب خاصرة الحلف القديم، والذي لا يبدو افقا لديمومته ولو بعد حين. كما اعتقد ان الالمان، وان لم يعلنوا حتى اللحظة موقفا واضحا، لن يكونوا بعيدين عن الموقف الفرنسي لأكثر من اعتبار الماني خاص واوروبي عام، فضلا عن الحساب التاريخي القديم مع الغرب عموما وأميركا خصوصا، وبالضرورة ستدخل على الخط كل من روسيا والصين، لان تسليح استراليا بالغواصات النووية يستهدف تطويق الصين، بعد ان حاصرتها اميركا بسياج طالبان في أفغانستان من الجهة المقابلة، وهو ما اعتبرته الخارجية الصينية تهديدا خطيرا للسلام والاستقرار الإقليميين. كما واعتبرته تصعيدا للحرب الباردة، ولا اعتقد ان الأمور ستتوقف عند الحرب الباردة فقط. والمستقبل المنظور يحمل الجواب على التطور الخطير.
[email protected]
[email protected]