التشكيل الجمالي في ديوان حروف التراب
بي دي ان |
07 أغسطس 2021 الساعة 08:14م

محمد جلال عيسى
ارتبط الأدب والشعر منه بالذات بالتشكيل الفني خاصة في الرسم, ويرجع ذلك إلى السمة الجمالية التي تجمع بينهما, فالشاعر "يجب أن يكون كالمصور, فإنه يصور كل شيء يحسه" (ابن سينا, 1953 :189), فهما يشتركان في نقل الصورة التي يبتدعها الرسام ويشكلها الشاعر, باختلاف أداة كل منهما, وما تحدثه في نفس المتلقي, فالشاعر يفكك المفردات ويعيد قولبتها وتشكيلها في صورة شعرية موحية, الأمر الذي يدفعنا إلى دراسة العلاقات والتراكيب التي تثير انفعالات مختلفة عند المتلقي, فلا بدَّ للشاعر أن يقدم للمتلقي انسجاماً وتناسقاً بين المعاني والصور والموسيقى, فالتشكيل الجمالي هو "صناعة المبدع وعبقريته في بناء اللغة, والصورة, واختيار المفردات على نحو خاص "(صيام, 2019 : 10), وهذا ما نجده في ديوان (حروف التراب) للشاعر رشاد أبو سخيلة, فالبيئة الفلسطينية الملتهبة بالأحداث السياسية, صقلت موهبة الشاعر ولعبت دوراً بارزاً في نمو الشكل الدلالي لنصه الشعري, فقد تميزت المفردات التي استعملها الشاعر رشاد أبو سخيلة بمعجم شعري بارز, يستمد حيويته من تجربته الحياتية في البيئة الفلسطينية, ما عمل على تشكيل قصائده بصورة إبداعية أظهرت قدرته العالية وتميزه في حبه لوطنه, إذ يقول في قصيدة(ألا يا قلب):
وفيك أعيش في عز رفيع وأنتشق الكرامة من شذاكا
تعلمت الشجاعة فيك حباً و أتقنت الملاحم في رباكا
كبرت على الغصون وباح قدس ودمع في العيون يبث ذاكا
وزيتون يجذره ثبات يصيب على أعادينا الهلاكا
فكيف أنوء عنك أيا فؤادي؟ وقد شيدت عمري من ثراكا
تدور الأبيات الشعرية حول حب الشاعر لوطنه العظيم,
فالصياغة ترسم ملامح الوطن الذي يحمل كل معاني العزة والكبرياء, وفي المقابل لا تحتوي هذه الأبيات على مظاهر جمالية وترف لوطن الشاعر ولا يوجد بها مظاهر رفاهية, فالشاعر جمّل وطنه بالعزة والكرامة, ليشير إلى أن حب الوطن ليس مرتبط بجماله ولا بما فيه من رفاهية, ويستمر الشاعر في التغني بحبه لوطنه وألمه الشديد لم يمر به هذا الوطن المحتل, يقول في قصيدة (ساخن الزفرات):
كل المشاهد حلوة في موطني لكنها ضاعت بقبر شتات
كعروسة قد خانها ليل الزفا فعريسها في أعهر الحانات
والغيرة الشهباء شيعها الترف إذ يسكر الأعراب بالثورات
الحر عبد والذليل مؤله ويحكم الديوث من ساداتي
القدس تبكي والدموع جداول ومصبها في دجلة
الأرض تحض كل يوم وافداً والعرب في دعة هنا وسبات
هنا يمزج الشاعر بين جمال وطنه وما يعانيه هذا الوطن من الويلات, فنلحظ في هذه الأبيات عاطفة جياشة,
تعكس بصورة جمالية شعوراً كبيراً بالأسى, لما هو كائن في وطنه وما يجب أن يكون, والصياغة تعرض لوحة تبرز فيها الحسرة والألم الذي يعصر قلب الشاعر, فيركز الشاعر على الجانب الإنساني الذي يشمل المعذبين من أجل أن يكونوا أحراراً على أرض هذا الوطن, وكيف لهؤلاء الذي يقبلون أن يكونوا عبيد وهم يعيشون على بيع الأوطان, هذه الصورة تناسب حالة التوتر التي يعيشها الفلسطيني الذي يشغله حال بلد من أجل الأفضل, وتزداد وطأة الخيانة قسوة في نفس الشاعر ليصل شعوره بالتمسك بوطنه ويملأ كيانه إلى أن يلتحم مع هذه الأرض وينال الشهادة.
هذا وغرق رشاد أبو سخيلة في بحر الحب, وهام بمحبوبته, وأخذ يداعبها وينسج لها قصائد غزلية, فيقول في قصيدة(مشيخ الشوق):
الحب بقربك أشقاني والبعد القاسي أبكاني
ماذا سأقول لأوردتي؟ إذ قطعها بعد الداني
أسلمتك روحي مأتمناً يا ليتك ترحم أركاني
نصبتك في نفسي ملكاً فقهرت بملكك وجداني
ودمي مسفوح منتهك يغليه الشوق بشرياني
أحببتك وطناً أفديه وكذلك حب الأوطان
استطاع الشاعر أن يخلق شكلاً جمالياً بهذه المفارقة من خلال مشاعر الحنين الجارفة وهو يعاني من ألم المحبوبة, وأراد أو يوضح بأن حبها يضاهي حب الوطن, وأنه تعب وهو بعيد عنها, وأن بعدها عنه يضاهي سلب الملك وقطع الشرايين وخروج الروح, وهذه الصفاة والمشاعر الظاهر في الأبيات ليست تناقضاً وإنما هي أسلوب الشاعر وقت الاشتياق وهو معذب بلوعة الحنين, فقد أراد أن يخلق شيء من تماثل الأضداد بينه وبينه محبوبته, فهو يصور حالة خاصة من حلالات الحب والشوق, وما يتصل بهما من لوعة, يقول في قصيدة(مناظرة الشفاه):
أتزور دياري في عجل وكأنك تكره إشباعي
أبلا أحضان أو قبل؟ أو حتى نظرة مناع
ما أقسى قلبك يا قلبي أبكيت بذلك أسماعي
عيناك نوافذ أندلس عيناك قواري نعناع
عيناك صراع الإدمان ودوائي رفض الإقلاع
عيناك الأوس مع الخزرج عيناك سيوف القعقاع
يصف رشاد أبو سخيلة جمال هذه المحبوبة, ويتغنى به فجمال عينيها يحيله إلى حالة من التشظي بين الأوس والخزرج وبين الإدمان ورفض الإقلاع, وكأن هذه العيون الخضراء تضاهي جمال نوافذ الأندلس, وهنا إشارة على أن عيون المحبوبة تحمل في داخلة دلالة التفتح والسعادة, ويبدأ الشاعر هذه الأبيات بعبارة (أتزور دياري في عجل), ليكشف عن حالة السعادة والجو الاحتفالي الذي ينسج بين ثنايا النص, ونلاحظ أن الألفاظ التي وظفها الشاعر لها الدور الكبير في رسم هذه مكانة مميزة لمحبوبته, (أحضان, قبل, نظر إمتاع), هذا ونجد التتابع الكثيف بين الأحداث والصور التي وظفها الشاعر, وهذه الأحداث عملت على تجسيد صورة الحب, وإلصاقها في ذهن المتلقي.
وقد سار شاعرنا في رحلة جملية, وجاب بحور الخليل وطاف بها وجاء استخدامه للبحور العربية موافقاً لموضوع القصيدة في الأغلب, ومناسباً للحالة النفسية التي يعيشها, فقد عمد إلى البحور الصافية, والتي تعتمد تفعيلة واحدة وهي في الديوان: (الوافر, الكامل, الرمل, المتدارك), ويقول في قصيدة (الغرام):
تخفي وعينك لا تبيت وتعلنه وإذا نسجت الشعر قلبك يكتبه
الحب شيء معلن إخفاؤه لا شيء يكتم سره أو يحجبه
جنب فؤادك حيث أبصرت الهوى ما للذي مثلي ومثلك مركبه
نظم أبو سخيلة قصيدته على نغمات البحر الكامل, مستفيداً منه بإيقاع هادئ, يتناسب مع فكرة النص التي تفيض بحيرة الحب وحنين التأمل, لكثرة ما في هذا البحر من صور عروضية متنوعة, فقد لعب الكامل دوراً كبير في تجسيد الشعور النفسي للعاشق الذي يستوطن في قصائد أبو سخيلة, وكما وأعطى الكامل للشاعر حرية أكبر في لتعبير عما يجول في خاطره, كما أنه هذا البحر هو أكثر البحور التي نظم عليها الشاعر في ديوانه حروف التراب, ومن البحور التي نظم عليها أيضاً المتدارك, يقول في قصيدة(مناظرة الشفاه):
أسواك يقلب أوجاعي؟ أسواك يكثر أطماعي؟
الحب شقي طائعه من أصغرنا حتى الراعي
مهلا يا أهيف فلتجلس فلماذا تعجل ما الداعي؟
نظم الشاعر قصيدته على نغمات المتدارك بإيقاعه المتدفق بشكل متسارع, فقد استخدم هذا البحر لبث حماسه القوي تجاه المحبوبة, طالباً عدم الإسراع في المغادرة, فالنص يعكس مشاعر أبو سخيلة المشتعلة بالعاطفة, واختار البحر المتدارك ليتناسب مع حالة المحبوبة التي تسرع في المغادرة, فهذا البحر يمتاز بسرعة تدفق عالية, ونلمح مشاعر كبيرة تشع من بين ثنايا النص, لتنثر حباً كبيراً تجاه المحبوبة. وقد عمل الشاعر على اختيار مفردات تتلاءم من أورزان هذا البحر, فألبس نصه مفردات تحمل دلالة السرعة, وهذا يناسب إيقاع البحر المتدارك.
وفي قصيدة (أسعد الله الجميل), يصور سعادته بجمال المحبوبة, وقد نظم هذه القصيدة على تشكيلات بحر مجزوء الرمل, يقول:
سيد في الحسن حبي كان للحور عديلاً
ثغره جنات عدنٍ شق للروض سبيلا
قده الممشوق جذع زاد في الحسن الذهولا
خذه فرش مبيتي أعشق الخد الأسيلا
يكشف البيض اللآلي يسلب الكل العقولا
يعبر الشاعر هنا عن جمال محبوبته باستخدام تفعيلة الرمل, لما تتسم به من قدرة عالية على التفاعل مع القصائد ذات النفس الطوي, لتمنح طاقات تعبيرية فائقة, تتيح للشاعر التعبير عن عاطفته التي تتدفق شوقاً وحباً.
هذا وكان للتغيرات الكبيرة التي أصابت القصيدة الحداثية, أثر كبير في البينية الإيقاعية, وربما هذا ما دفع شاعرنا للتخلص في حين أو أكثر من القيود القوية التي تكبل القصيدة المعاصرة, فقد نظم في ديوانه – موضوع الدراسة- على غرار قصيدة التفعيلة, كما في قصيدة (لا تحزنوا) وقصيدة (حروف التراب).