هجرة الشباب.. والسنوات العجاف

بي دي ان |

12 سبتمبر 2023 الساعة 12:07ص

المشرف العام
يظنُّ البعض منّا أنّ قيمة الانتماء للوطن هي ناتجة بفعل ولادة المواطن على أرض ما، بالتالي يصبح منتميًا روحًا وجسدًا ونفسًا، لكنَّ الحقيقة بنظري غير ذلك، فالانتماء للوطن ورغم أنّها قيمةٌ هامةٌ جدًا في حياة الإنسان واحتياجٌ نفسيٌ ضروريّ إشباعه، يشعر خلالها الفرد بذاته وأنّه جزءٌ من مجتمع يحترمه ويقدره.

وعلى الرّغم من الأهمية الكبيرة لإحساس الفرد وشعوره بالانتماء، فإنّ هذا الشّعور لابدّ من توافر مقومات لتعزيزه، كإرساء العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية، بين جميع المواطنين، ومحاربة كلّ أنواع التمييز، وكذلك الحرص على تطبيق القانون على الجميع ولا أحد ( فوق القانون ولا أحد تحته)، إضافة إلى إرساء مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، والقضاء على الواسطة والمحسوبية (ما يعرف بعظم الرقبة).

ولعلّ من أولويات هذه القائمة حفظ كرامة وصون حقوق المواطن.
 
جميع ما تم ذكره مهم ليرتبط المواطن بوطنه وليكن مواطنًا صالحًا يؤدي واجبه نحو وطنه وشعبه، أما في حال عكس ذلك من إهانة كرامة المواطن والاستخفاف به وبحقوقه، وتعامل السّلطات بجفاء واستعلاء وبالقوة، إلى آخره مما يقطع الأوصال بين المواطن والمجتمع، حينها تتحمل السّلطات والحكومة القائمة مسؤولية ما يحدث للوطن والمواطن.

وما يحدث مؤخراّ في غزة من هجرة الشّباب على الأغلب هو حدث يستحق الوقوف أمامه بقوة وبكامل المسؤولية الوطنية والأخلاقية دون أي مساحيق  ولا تضليل أو مكابرة، فلا يجوز المجاملة على حساب القضايا الوطنية، ولا يمكن معايشة الوهم ولا بيعه للآخرين فازدحام المعابر خاصة معبر رفح البري على مدار العام وتهافت آلاف المواطنين بل، مئات الآلاف على بوابات المعابر، وسفر عشرات الآلاف بلا عودة هي ذاتها الهجرة (والهجرة القسرية) ولا يجوز التعامل مع الموضوع على أنّه زيارة أقارب أو استجمام إلى آخره من المبررات التي فيها طمس للحقيقة. 

والحقيقة القاسية أنّ أغلبية سكان غزة يرغبون بالهجرة وليس السّفر وأنّ المهاجرين وفقًا لإحصائياتٍ عديدةٍ تقارب (مئتا ألف مواطن هاجروا خلال سبعة عشر سنة عجاف كانت وما زالت تخيم على المواطنين في غزة، بفعل كلّ ما هو ضدّ المواطن واستقراره وبقاءه على أرضه، فمعظم مقومات الانتماء والبقاء غير متوفرة ولم توفرها حكومة الأمر الواقع في غزة والتي بدورها تتحمل الجزء الأكبر في ذلك، لعدم قدرتها على توفير الحدّ الأدنى من متطلبات الشّباب من عملٍ وحياة كريمة، إلى الكثير من المضايقات وفرض الضّرائب والتّضييق عليهم. 

التّهجير القسري للشّباب ومن ثمّ عائلات، ليس في صالح الواقع الديمغرافي للشّعب الفلسطيني، وإفراغ الوطن من مواطنيه هو بحدٌّ ذاته كارثةٌ وطنيةٌ لا بدّ من تقديم استقالات على أثرها تعبيرًا عن فشلٍ ذريعٍ في إدارة الحكم وفكفكة الأزمة.

الجميع يدرك جيدًا أنّ وضع غزة الآخذ بالانفصال تدريجيًا وبشكلٍ سريع مؤخرا.

لن ينتج مجتمعًا مستقرًا هانئاً، لأنّ سبعة عشر عاما هي سنواتٌ كافية لتظهر واقع وسوء وبؤس الحال الذي يحاول البعض إلقاء المسؤولية على الاحتلال تارة (رغم تحمله جزء كبير أيضاً)، وعلى الآخرين تارة أخر، (وربما نسمع قريباً أنّ المسؤولية يتحملها المواطن) ، هذا العناد والتّمترس خلف معتقدات وشعارات واهية لن تنقذ وطناً مما هو فيه الآن ولن تنقذ من يسوق هذه المبررات غدًا، فنحن الآن أمام حالة تفتيتٍ وتشتيتٍ لبقايا وطن وكلنا ندرك خطورة تفريغ الوطن من أهله.

بكلّ الأحوال نجد أنّ هنالك أطراف فصائلية وحكومية تضع رأسها تحت التراب لا تريد مشاهدة الحقيقة ولا التعاطي معها وهذا بحد ذاته كارثة أخرى، وحديث البعض أن هذا سفر طبيعي وليس هجرة هو محاولة للتحايل على الواقع والهروب للخلف، والتّخلي عن مسؤولية ما يحدث وما سيحدث.

بكلّ الأحوال "الثابت بالكون هو التغيير" وسيعود كلّ من تهجر يومًا، سيرجع إلى وطنه في وقت يشعر حينها أنّه عاد له وطنه، ولا بدّ للطيور أنْ تعود إلى أعشاشها وتبني لها بيتًا وعشاً من جديدٍ، حيث ولدت وحيث رمت فيها حبة القمح الأولى.