التجسس الاقتصادي.. وتغيير موازين القوى

بي دي ان |

25 نوفمبر 2021 الساعة 06:06م

منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، برز مصطلح التجسس الصناعي في العلاقات الدولية، فقد مارسته روسيا والصين تحديداً من أجل تقويض قوة أمريكا النسبية في المجال التكنولوجي، وقد نجح الروس عام   1949 عبر التجسس الشامل على مشروع مانهاتن في إنهاء احتكار الأمريكيين للسلاح النووي والذي دام أربع سنوات.
استمر الاتحاد السوفيتي في الاعتماد على محاكاة التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية وسرقة الأسرار التجارية أثناء الحرب الباردة، غير أن النتائج كانت متباينة، فعلى سبيل المثال، كانت الطائرة السوفيتية «توبوليف» من طراز تي يو 144 محاكاة واضحة لطائرة الركاب الإنجليزية-الفرنسية «كونكورد» التي تتميز بأنها أسرع من الصوت، ومع أن السوفيت تمكَّنوا من تجاوز سرعة «كونكورد»، إلا أن المشروع عانى من انخفاض الطلب والمخاوف المتعلقة بالسلامة.
مع أن انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات أدى إلى اندلاع اضطرابات سياسية دامت عقدًا، إلا أنه لوحظ أن كان هناك قدراً كبيراً من الاستمرارية في نشاطات التجسس في الاتحاد الروسي الجديد، وتتمثل شواهد هذه الاستمرارية في عمليتي اعتقال ألدريش أميس، الضابط الذي كان يعمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية في 1994، وروبرت هانسن، عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي في 2001، إذ قدَّم كلاهما معلومات استخباراتية إلى المسؤولين السوفيت ومن جاء بعدهم في الاتحاد الروسي.
يعتقد الأمريكيون أن الروس لا زالوا يتجسسون على الشركات الأمريكية، وقد أسفرت ثلاث قضايا على الأقل من قضايا التجسُّس الاقتصادي الروسي التي تستهدف معلومات المستخدم وأسرار تجارية تكنولوجية في شركات كبرى مثل «ياهو» و«جي إي» و«بوينج» عن توجيه تهم فيدرالية بين عامي 2016 و2019، ويبدو أن حملات التجسُّس الاقتصادي الروسية الحديثة تُكرِّر أيضًا نموذج إنشاء وجود تجاري في السوق من أجل الوصول إلى أسرار تجارية، وهناك تحذيرات فيدرالية عامة بشأن التهديد الاستخباراتي المحتمل الذي تشكله شركات استثمارية رأسمالية مدعومة من الكرملين مثل شركة روسنانو على قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة.
أما الصين، فقد تورطت في عشرات الاتهامات المتعلقة بسرقة أسرار تجارية في الولايات المتحدة، إذ بين عامي 1996 و2019، تم اقتياد الصين إلى ردهات 66 قضية (32%) من أصل 206 قضايا أمريكية تنطوي على تُهَم تتعلق بقانون التجسُّس الاقتصادي الصادر عام 1996، وفي إطار زمني أكثر حداثة، أي في المدة بين عامي 2016 و2019، كانت الصين مسؤولة عن نصف جميع التهم المتعلقة بالتجسُّس الاقتصادي (18 قضية من أصل 36.(
تنظر الحكومة الأمريكية اليوم إلى التجسُّس الصيني بوصفه تهديدًا خطيرًا ومتزايدًا، إذ يفتح مكتب التحقيقات الفيدرالي قضية مكافحة تجسُّس جديدة متعلقة بالصين كل 10 ساعات في المتوسط، وقد تسببت نشاطات التجسُّس الاقتصادي الصيني في خسائر قيمتها 320 مليار دولار سنويًّا ابتداء من عام 2018، أو 80% من إجمالي تكلفة سرقة الملكية الفكرية للولايات المتحدة، ولهذا، استحدثت الحكومة الفيدرالية مجموعة متنوعة من العقوبات والقيود المفروضة على الطلاب والبرامج الصينية، التي تهدف إلى تحديد التجسُّس الاقتصادي ومنعه، ومع ذلك، يشير التاريخ إلى أن التدابير الوقائية تؤدي في أحسن الأحوال إلى إبطاء نقل التكنولوجيا.
من الصعب إيقاف الموجة الحالية من التجسس الاقتصادي الذي تقوده الصين ويستهدف الولايات المتحدة نظرًا للعلاقات التجارية ذات الأهمية الاستراتيجية بين البلدين التي تُسهل تدفق المعلومات وتجعل سياسات مكافحة التجسس مكلفة للغاية، فالتداولات بين القطبين الكبيرين بلغت 558 مليار دولار في 2019؛ وستضطر أي سياسة تهدف إلى مكافحة التجسس الاقتصادي إلى مراعاة هذه الحقائق الاقتصادية.
من الواضح أن الصين لديها اهتمام وقدرة على إجراء تجسس اقتصادي، وقد ثبت ذلك من خلال عشرات الاعتقالات والتُّهم والإدانات على مدار العقد الماضي، ويبدو أن بكين في وضع جيد يُمكِّنها من استغلال الأسرار التجارية التي حصلت عليها من خلال عمليات التجسُّس، نظرًا لقاعدتها التصنيعية الكبيرة، ورأس المال الذي تقدمه لدعم الشركات الناشئة الجديدة، والدعم السياسي للابتكار التكنولوجي من خلال برنامج صُنِع في الصين  2025 والألف موهبة، وقد كثَّفت واشنطن من جهود مكافحة التجسس رداً على ذلك.
تاريخياً، فإن التجسس وحده لا يكفي لترجمة الأسرار التجارية المسروقة إلى نجاح اقتصادي، على غرار الجهود الفرنسية الرامية إلى تعلُّم أسرار إنتاج الخزف الصيني، أو الجهود السوفيتية لتكرار الجرَّار الذي صنعته شركة فورد، ومع أن بكين تمتلك الكثير من القوى التي تعمل لصالحها، فإن هدفها الطموح لتحقيق هيمنة عالمية بحلول منتصف القرن ليس مضمونًا، غير أن التجسس الاقتصادي سيشكل تهديداً مستمراً خلال السنوات القادمة.

• خبير دولي متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية