مرعي عبد الرحمن نسيج ذاته

بي دي ان |

07 مايو 2023 الساعة 01:15ص

الكاتب
بعد أسبوع من رحيل المناضل الوطني الكبير مرعي عبد الرحمن/ أبو فارس ارتأيت تأبينه، وقول كلمة في حقه استحقها عن جدارة. رغم اني لم اكن مقربا منه، وكانت معرفتنا تقوم على الاحترام المتبادل. لكن تجربة الرجل تستحق التوقف امامها، وتسليط الضوء عليها، وإن جاز لي التعبير تكريمه بما املك من أدوات التكريم، وهي وضع تجربته أمام القارىء الفلسطيني المتابع لكتاباتي وخاصة من الأجيال الجديدة الذين لم يعيشوا زمن العطاء الفلسطيني، وزمن الحرث والفعل الفكري السياسي، زمن الآمال الكبيرة عندما كانت ال"نحن" هي الأعلى" و"الانا" الذاتوية هي الأدنى، وحينما كانت الثورة الفلسطينية المعاصرة شعلة مضيئة في السموات السبع، وكان شعاعها يغطي مساحة الكرة الأرضية، مع ان الظاهرة العلنية للثورة كانت تتركز في بقعة جغرافية محدودة واقصد منطقة الفاكهاني والطريق الجديدة وأبو شاكر في القسم الغربي من العاصمة اللبنانية بيروت، بالإضافة للجنوب اللبناني والمخيمات الفلسطينية، بيد انها جعلت منها مركز الكون السياسي والأمني، وملتقى المبدعين والمفكرين من كل المدارس الفكرية اليسارية والوطنية والقومية، وضاعفت من مكانة عاصمة الثقافة العربية آنذاك.
عن عمر ناهز الثمانين عاما رحل مرعي عبد الرحمن يوم السبت الموافق 29 نيسان / ابريل الماضي في العاصمة الأردنية عمان بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي ولد في قرية الشجرة في الجليل الأسفل عام 1944، قبيل النكبة بأربعة أعوام، وفي عام النكبة 1948 اضطرت عائلته للهجرة الى مخيم حمص في سوريا. لا سيما وان عددا لا بأس به من أبناء وعائلات القرى الفلسطينية في الجليل هاجروا لحمص، درس الابتدائية والاعدادية في مدارس المخيم والثانوية في مدارس حمص، وتابع تحصيله العلمي في مدينة سان بطرسبورغ / ليننغراد في روسيا السوفياتية عام 1963، وتخرج عام 1969 بدرجة ماجستير في اللغة والادب الروسي، وكان انقطع عن الدراسة لبعض الوقت اثناء هزيمة حزيران / يونيو 1967، وحسب وجهة نظر الصديق احمد نجم، التحق آنذاك في فتح، مع ان هناك رأي آخر يقول، بانه التحق بالحركة عام 1969، أي بعد انهاء دراسته، وبغض النظر عن هذا التباين المحدود، وفق أبو علاء الذي اعاده لاستكمال دراسته امير الشهداء أبو جهاد الوزير عام 1968، ولاحقا بعد العام 1982 حصل على شهادة الدكتوراة من معهد الاستشراق في موسكو، وكانت أطروحته بعنوان " تطور سياسة منظمة التحرير عبر النضال التحرري ضد الاستعمار الإسرائيلي."
ورغم ميول مرعي اليسارية لم يلتحق باي فصيل يساري، مع انها اقرب لعالمه الفكري السياسي، الا انه كان يعتقد ان التحاقه بحركة التحرير الوطني فتح، الفصيل الأكبر، ينسجم اكثر مع فرضية الاستفادة من الطابع الجبهوي للحركة لخلق مناخ ثوري بثوب يساري. لا سيما وانها (فتح) لم تعتمد أي مدرسة فكرية محددة، وفتحت الأبواب على مصاريعها للكل الوطني ليكون عضوا فيها بعيدا عن القيود الفكرية، لاعتقاد أبو فارس ان القاعدة الاجتماعية الواسعة للحركة تمنح تيارهم الفرصة للغرف من هذا الوعاء دون قيود، ولقناعتهم بان الاولوية تتمثل في تعميم ونشر الفكر الماركسي اللينيني على الطريقة التبشيرية، بحيث تشكل الحاضنة الدافئة لاي مكون حزبي تنظيمي لاحقا.
مع ذلك لم يمنعه اعتقاده من نسج أوسع العلاقات مع القوى اليسارية الفلسطينية والعربية والاممية، وشكل مع نخبة من اقرانه في تنظيم حركة فتح تيارا يساريا وفق معايرهم، ومنهم حنا ميخائيل، وماجد أبو شرار واحمد ابوشاويش، وعبد الفتاح القلقيلي وأبو صالح وأبو خالد العملة وقدري ومحمد أبو ميزر وناجي علوش والياس شوفاني والازهري ومحجوب عمر ومنير شفيق وغيرهم. وتبين في سياق سيرورة هذا التيار، انه متباين الاجتهادات والرؤى في قراءة المسألتين الوطنية والقومية والمسألة الصهيونية، والدليل انشقاق اكثر من مجموعة منهم عن الحركة الام فتح، ابرزها انشقاق 1983 بقيادة الراحل أبو صالح وأبو خالد العملة وأبو موسى ومن لف لفهم تحت مسمى "حركة فتح / الانتفاضة" وتبين لقيادة هذا الاطار، انهم لم يكونوا اكثر من أداة بيد الأنظمة العربية الداعمة لهم، وعلى حساب منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد، التي رفضها مرعي واقرانه من المؤمنين بوحدة حركة فتح، ورفض فلسفة الانشقاقات لان مآلها الاندثار، وكون الشعب وقواعد الحركة رفضوا ويرفضون الانشقاق كمبدأ، ويرفضون التبعية لاي نظام عربي مهما كان شعاره ويافطته القومية، وحرصا على القرار الوطني المستقل.
من حافظوا من التيار اليساري على عضويتهم في فتح تمثلوا النموذج الفيتنامي في بناء الجبهة الوطنية للدفاع عن المشروع الوطني. وكان طموح المناضل مرعي أوسع من النطاق اليساري الفلسطيني، فنسج علاقات مع الأحزاب الشيوعية الجذرية ومنها الحزب الشيوعي المصري 8 يناير بقيادة طاهر عبد الحكيم، ومجموعة الشيوعيين في مجلة "قضايا فكرية" ومنهم محمود امين العالم ونوال السعداوي، ورياض الترك وميشيل كيلو في سوريا وفي لبنان كان قريبا من منظمة العمل الشيوعي وغيرهم من المدرسة الماركسية اللينينية المتمردة على الواقع الكلاسيكي للحركة الشيوعية، مع انه تخرج من تلك المدرسة، الا انه انقلب عليها، لاعتقاده واقرانه انها بحاجة الى استنهاض وتطوير. وكأنه استحضر من حيث يدري او لا يدري نموذج القائد المؤسس الراحل جورج حبش، الأمين العام الأول للجبهة الشعبية وتحالفاته مع القوى اليسارية المتطرفة في الساحات العربية المختلفة، مع الفارق بين الطرفين والتجربتين، لكن مآلهما واحد.
ومن السمات الخاصة للمناضل الراحل مرعي عبد الرحمن كتابة عن "الامبريالية اليهودية"، والذي تميز في طرحه عن النسق العام للمفكرين السياسيين الفلسطينيين والعرب وحتى العالميين في قراءة المسألة اليهودية، ونشوء وتطور الحركة الصهيونية، حيث افترض ان الامبريالية ولدت أولا في الحاضنة الدينية التجارية الربوية اليهودية قبل نشوء وتطور التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للرأسمالية في الغرب الأوروبي والأميركي، وثانيا دور المال الربوي اليهودي في فرض الاجندة الصهيونية على الأنظمة الرأسمالية. وهذا موضوع جدال ونقاش واسع، لا مجال للاستفاضة به. ولكنه شكل احد ملامح أبو فارس الأساسية، وميزه عن اقرانه وتياره، ولهذا كان نسيج ذاته.
تولى مرعي عبد الرحمن العديد من المهام في منظمة التحرير، منها رئاسة دائرة العلاقات القومية في المنظمة، وترأس إدارة المنظمات غير الحكومة، ومثل فلسطين في السكرتاريا الدولية للمنظمات غير الحكومية التي تتبع للأمم المتحدة، وبعد العودة للوطن في اعقاب اتفاق أوسلو 1994 استلم مسؤولية دائرة العلاقات القومية في المنظمة حتى عام 2005، مع ان المرض انقض عليه بعد اجتياح شارون لمحافظات ومدن الضفة الفلسطينية عام 2003، حيث لم يحتمل آنذاك تكسر العديد من الاحلام والطموحات الوطنية الكبيرة.
رحل الفارس المقدام أبو فارس الى عالم الخلود الابدي، تاركا خلفه ميراث وطني وقومي واممي خلد اسمه بين الأسماء الحسنى للوطنية الفلسطينية، وحفر حروف اسمه على صخور الكفاح التحرري، وسيبقى مكانه حاضرا في سجل الخلود، احر التعازي القلبية لاسرته المناضلة بكل افرادها ودرجات القرابة، ولاخوانه في حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح ولكل محبي مرعي عبد الرحمن، الذي شكل بجد ظاهرة متميزة في الساحة الوطنية، رغم انه لم يكن عضوا في اللجنة المركزية لحركة فتح، ولا عضوا في المجلس الثوري، ولكنه كان أكثر حضورا من أسماء وقيادات في الهيئات القيادية. ولروحه السلام.
[email protected]
[email protected]